تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمن لم يدرك حكمة الرب، جل وعلا، تفصيلا، وليس ذلك لعموم الخلق، بل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم الخلق به، تبارك وتعالى، لا يعلم إلا ما علمه الله، عز وجل، من الكتاب والحكمة، فـ: (لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ)، و: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)، من لم يعلمها فليتهم عقله، وليرد متشابه عقله إلى محكم التنزيل، فلن يعدم، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، قادحا بل قوادح في قياس عقله، فهو أولى بالقدح من الوحي المنزل، فالوحي قد ضمن الشارع، عز وجل، بعلمه المحيط وحكمته البالغة عصمته، وقياس عقول البشر معزول عن العصمة فلا نصيب له منها إلا بقدر اتباع الوحي المنزل معدن العصمة للأقوال والصلاح للأعمال الظاهرة، والتزكية للأحوال الباطنة، فعصمته قد عمت سائر أمر المكلف: ظاهره وباطنه، سره وجهره، علمه وعمله، وهذا أصل سبقت الإشارة إليه مرارا، فلا صلاح للدنيا والدين إلا باتباع وحي النبيين، عليهم السلام، فهو السلك الذي تنتظم فيه حبات الخير الكوني والشرعي، فلولا الرسل عليهم السلام لخرب العالم، علويه وسفليه، فذلك فساد الكون الذي نفته الرسالات، ولولا الرسل عليهم السلام ما عبد الله، عز وجل، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في "الصارم المسلول"، فذلك فساد الشرع الذي نفته الرسالات، فالرسالات نافية لكل خبث كوني أو شرعي.

وضرب الأمثال بالشاهد على الغائب فيما يصح فيه ضرب المثال على المعاني دون الكيفيات، فإن الكيفيات الغيبية مما لا يعلمه إلا الرب، جل وعلا، بل حقائق الأعيان المشاهدة لا يعلم كنهها تحديدا إلا الرب، جل وعلا، ضرب الأمثال بذلك أمر اطرد في التنزيل، فذلك من: تمام بيان المعقولات بإيرادها في صور محسوسات تقريبا لها إلى الأذهان، فإن النفس تأنس بالصورة المحسوسة ما لا تأنس بالصورة المعقولة لمباشرتها الأولى بآلات الحس الظاهر فهي أقرب تناولا وأظهر في التصور بخلاف الصور العلمية الدقيقة التي لا يحتملها كل عقل.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وقد ضرب الله الأمثال لعباده في كتابه وبَيَّن لهم ما في لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الذي به حياتهم وأقواتهم وحياة الأرض والدواب وما خلقه لهم من المعادن التي بها صلاح أبدانهم وأقواتهم وصنائعهم من الشر والخير وبين المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك فقال تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ} [الرعد: 17] فأخبر سبحانه أن الماء بمخالطته سبسب الأرض إذا سال فلا بد من أن يحمل السيل من الغثاءِ والوسخ وغيره زبداً عالياً على وجه السيل، فالذي لا يعرف ما تحت الزبد يقصر نظره عليه ولا يرى إلا غثاءً ووسخاً ونحو ذلك ولا يرى ما تحته من مادة الحياة، وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها إذا أوقد عليها فى النار ليتهيأ الانتفاع بها خرج منها خبث ليس من جوهرها ولا ينتفع به، وهذا لا بد منه في هذا وهذا يجاوزه بصره". اهـ

ص128.

فلا ينفك استخلاص مادة الخير الكلية من شر جزئي فذلك من السنن الكوني المطرد فاستخلاص مادة الذهب النفيسة مما يخالطه من الشوائب الخسيسة يستلزم عرضه على كير ملتهب ينفي خبثه فيخرج أحمر خالصا، والفتنة بالنار نوع فساد اغتفر لما يتولد منه من المصلحة الكلية، وكذلك ورود مادة الحق على قلب قد ملئ شبهات وأباطيل فإنها تحدث في القلب ابتداء وجعا لمخالفته المألوف الذي نشأ عليه فانتقاله من حال العلة إلى حال الصحة بمباشرة الدواء لا ينفك عن آلام تغتفر هي الأخرى لما يتولد منها من العافية، فالنظر إلى الألم العاجل يصد النفس عن تعاطي الدواء الشافي، فيحجم القلب سكونا وركونا إلى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير