تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الموروث عن الآباء من المقالات وإن كان فيه هلاكه، فهي أغذية فاسدة إن حصل بها نوع اغتذاء للقلب يقيم أوده باعتبار الحال، فكل عابد يجد في معبوده وإن كان باطلا نوع تأله تسكن به نفسه ولذلك يوجد من عبيد الأوثان والصلبان والأشجار والأحجار من يخشع ويتأله فتسيل عينه وتخضع جوارحه فيظن أن ذلك الوارد القلبي: وارد شرعي لمجرد أنه أحدث في نفسه نشوة ولذة لا يكفي مجرد وجدانها في الحكم بصحتها، بل لا بد من عرضها على ميزان النبوات الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال، فما وافقه قبل وإن وجدت النفس فيه ألما باعتبار الحال فإنها لا بد أن تجد من لذته النافعة الخالصة ما ينسيها ألم الابتداء، فاحتراق المبدأ ذريعة إلى إشراق المنتهى، فنار الحرق تولد في القلب حرارة إيمانية يحيى بها كما يحيى الجسد بحرارة الروح السارية في الأعضاء، وما خالفه رد وإن وجدت النفس فيه لذة وهمية باعتبار الحال فهي من تزيين النفس والشيطان، والنبوات منها براء، فلا بد أن يعقبها ألم شديد وغم عظيم ينسي مباشرها لذتها إن كان في قلبه بقية حياة وفي عقله بقية قياس، يدرك به الفرقان بين مقالة النبوات المطرد ة ومقالة المجامع والمعاهد المضطربة، فكل يتآمر على النبوات بإحداث مقالة تناقضها، إفراطا بالغلو أو تفريطا بالجفاء، فمن متخذ للأنبياء أربابا وآلهة، ومن قادح فيهم بل منكر لنبوتهم بل قد تعدى بعض الملاحدة فأنكر وجودهم ابتداء فهم نسج خيال الضعفاء للتسلية عما يصيبهم من قهر الأقوياء فتعدهم النبوات بجنات، وما ثم جنة إلا في هذه الحياة، فهي الغاية عند أولئك، يردون على شهواتها مورد البهائم الظمآى فلا يزيدهم الشرب إلا ظمأ، فيكثرون التنقل بين أجناس الشهوات طلبا لسعادة النفس وطمأنينة القلب المضطرب لرده مادة صلاحه المركوزة في الوحي الذي يباشر مركوز النفس من الفطرة التوحيدية الأولى فيثيره فتراه قد تحرك بعد سكون وظهر بعد كمون، فأنبت في القلب شجرة التوحيد، وأذهب عنه ما كان يتسلى عنه من الآلام بمباشرة الشهوات، إذ هو معدن السعادة الحقة، فـ: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) منطوقا، و: من أقبل علبه فإن له سعة في العيش وراحة في القلب وبصيرة يرد بها على الرب، جل وعلا، ورود المشتاق إلى لقاء معبوده، فقد أحب لقاءه بعد معاينة ثوابه فأحب الرب، جل وعلا، لقاءه وقربه بقبض روحه إليه وفتح أبواب سماواته لها لتعرج إلى الرفيق الأعلى برسم: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي).

والشاهد أنه لا بد من الألم قبل العافية، ومن النصب قبل الراحة، فلا ينفك الخير الكلي عن شر جزئي يسبقه، فبه يبتلى العباد ليظهر المحب الصادق من المدعي الكاذب، فذلك إظهار للمعلوم الغيبي في عالم الشهادة الوجودي، ولتظهر حكمة الرب، جل وعلا، في تدافع الأدوية والأدواء فدواء النبوات يدافع أمراض الشبهات والشهوات، فترتفع حرارة القلب إذ القتال قد اشتد بين جهازه المناعي الإيماني المؤيد بمضادات الوحي، وجراثيم الشبهات والشهوات التي أفسدت علمه وعمله، فلا بد أن يتولد من ذلك القتال أجناس من الآلام تغتفر طلبا لما يتولد منها من كمال عافية القلب، وهذا تدافع من جنس التدافع الكوني بين أسباب المرض الحسي وأدويته المعهودة، فالسنة الشرعية على وزان السنة الكونية إذ كل قد صدر من رب واحد فهو الحاكم بقدره الكوني النافذ، الحاكم بقدره الشرعي اللازم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وهذا كالشمس: فإن الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشر المقابل له بها، وأين نفع الشمس وصلاح النبات والحيوان بها من نفع الرسل وصلاح الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصلاح الأبدان والدين والدنيا والآخرة به؟ ". اهـ

ص129.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير