تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فبالاضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أَقرب إليه من نفسه. وخلقه على هذه الصفة هو من الأُمور التى يحمد عليها الرب جل جلاله ويثنى عليه بها". اهـ

ص131.

فقد خلق فقيرا، فالفقر وصف لازم له، لازم لروحه التي تفتقر إلى النبوات فهي التي تصحح علومه وإراداته وأعماله الباطنة والظاهرة، لازم لبدنه الذي يفتقر إلى الغذاء ليحيى، وهذا الفقر، وإن كان نقصا من وجه إلا أن فيه من المصالح الكلية الدينية والدنيوية ما يربو على مفسدته، فبه:

يظهر كمال وصف الرب، جل وعلا، في مقابل نقصان وصف المربوب الفقير، وذلك مما يحمد به الرب، جل وعلا، فهو المستحق للثناء لوصف كماله، وإن لم يصل عباده أثر من ذلك، فكيف وهم بآلائه متنعمون في دار الابتلاء التي لا يخلو نعيمها من كدر به، يمتاز، أيضا، كمال نعيم دار الجزاء عن نقصان نعيم دار الفناء، وذلك أيضا من الحكم الجليلة لخلق الصور الناقصة، فبها يظهر فضل الكامل سواء أكان الكامل هو الخالق، عز وجل، فهو الكامل على جهة الإطلاق فكل ما عداه، وإن كان كاملا فيكفيه نقصا أنه كائن بعد عدم، فكل ما سواه، عز وجل، مخلوق حادث، فكان الله، عز وجل، ولم يكن معه شيء، ثم خلق الخلق على الترتيب المعروف، فأعظم الكائنات وهو العرش مخلوق من العدم، لم يكن شيئا في الأزل حتى شاء الرب، جل وعلا، كينونته فأوجده بكلمته التكوينية الخالقة: فكان فهو من العدم كائن. فما دونه مخلوق كائن من العدم من باب أولى، أم كان الكامل مخلوقا، فبمطالعة أحوال الكامل يتبين فضل الكمال ليمتثل إن كان خُلقا أو هيئة، ففضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن كان العابد كاملا، ولكن الكمال درجات تتفاضل فكيف إذا ورد الكمال العلمي في مقابل الجهل، أو الكمال العملي في مقابل الفسق والعصيان، ألا يظهر فضل الكامل على الناقص في هذا الحال من باب أولى؟، إذ المفاضلة بين الكامل والناقص أظهر من المفاضلة بين الكامل والأكمل، وذلك التفاضل بين الأحوال علوما وأعمالا وما يترتب عليها من أحكام التفضيل فيتفاوت الحكم تبعا لتفاوت الوصف، ويتفاوت المدح أو الذم تبعا لحسن أو قبح الحال، ذلك التفاضل في الأحوال والأحكام مما تظهر به آثار حكمة الرب، جل وعلا، إذ لم يسو بين مختلفين في الحكم بل لكل حكم يلائم وصفه، فيوضع المدح في الموضع الذي يلائمه، ويوضع الذم في الموضع الذي يلائمه، وتلك عين الحكمة الإلهية بوضع الشيء في موضعه الملائم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فذلك معنى يذهل عنه كثير منا لا سيما في المواضع التي يظهر فيها أثر وصف جلال الرب، جل وعلا، بعقوبة أو ابتلاء، فيطعن بلسان مقاله أو حاله في حكمة الرب، جل وعلا، أن قدر هذا المكروه الذي يكون ذريعة إلى وقوع أضعافه من محبوبات الرب، جل وعلا، التي يصلح بها شأن العبد المبتلى، لو صبر، في الأولى قبل الآخرة فهي خير عاجل بفرج آت ولو بعد حين، وخير آجل بما ادخر للصابرين في دار النعيم.

وبمطالعة أحوال الكامل إن كان مخلوقا تتطلع النفس إلى نيله على الوجه المشروع، فمن تطلع إلى أوصاف الجنان تطلع إلى سكناها ببذل الجهد والعمر في السير على طريق الهجرتين إلى الوحي بقسميه: الكتاب العزيز والسنة، فهما منهاج النبوة الذي استعصم به السابقون الأولون، فنالوا من ثناء الرب، جل وعلا، ما تتلوه الألسنة من الذكر المحفوظ، ونالوا من ثناء أصحاب العقول، ولو لم يكونوا من أهل الديانة، ما جعلهم مثلا عليا تفوق مثل الفلاسفة الخيالية فتلك مثل حقيقية صنعها الرب، جل وعلا، على عين الوحي، فظهر بها فرقان ما بين صنع الرب، جل وعلا، وصنع البشر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير