تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أنه لو لم يكن فيما يطرأ على الإنسان من أعراض النقص، مع كونها كما تقدم نعما من وجه فليست كلها آلاما، لو لم يكن فيها إلا استحضار مقام كمال الرب، جل وعلا، في مقابل حال العبد من النقص، لكفى بها نعمة، فهو نقص يعرج به العبد إلى درجات العبودية الكاملة، فيزداد تعبد ورقا بإمعان النظر في نقصه في مقابل كمال ربه، فيظهر من الذلة والانكسار لرب الأرباب، جل وعلا، ما يقترب به فهو من أهل: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، والسجود من أعظم صور الذل الظاهر الذي لا ينفك إن كان صاحبه من الصادقين عن ذل باطن، فينكسر القلب بين يدي ربه، جل وعلا، فينكسر البدن لزوما، فإذا صلح الملك صلحت الأجناد، وإذا خضع القلب خضعت الجوارح.

وتلك العوارض مع كونها نقصا لازما من وجه إلا أنها لا تنفك عن جهة كمال ملازم لها من وجه آخر بالنظر إلى الجبلة البشرية، فأفعال الأكل والشرب والنكاح والنوم ...... إلخ أعراض فقر ذاتي بالنظر إلى حاجة العبد إليها ليحيى ولكنها مع ذلك لا تنفك عن وصف كمال يمدح به صاحبها من جهة صحة آلاته وقواه البدنية فمن يأكل أكمل ممن لا يأكل لمرض أو نحوه، ومن ينكح أكمل ممن لا ينكح لعنة أو نحوها .......... إلخ، فمعنى الكمال فيها ظاهر، بالنظر إلى الطبيعة البشرية، لا على الإطلاق، فهي صفات كمال مقيد بأحوال البشر، فلا تجري على رب البشر، جل وعلا، لتقاس صفاته، عز وجل، عليها قياسا أولويا فيكون كل كمال في حق البشر واجبا في حق رب البشر، جل وعلا، فإن ذلك إطلاق يفتقر إلى التقييد، فكل كمال، (مطلق لا نقص فيه بحال فلا يتطرق إليه النقص بحاجة أو افتقار من أي وجه بل هو كمال مطلق مستغن عن الأسباب، ذاتي لا ينفك عن صاحبه، وهو مع ذلك مما جاءت الرسالات بإثباته)، فكل كمال بهذا القيد ثبت للعبد فهو ثابت للرب، جل وعلا، من باب أولى، والشاهد أنها، وإن كانت أعراض نقص من وجه إلا أنها أعراض كمال ولو مقيدا من وجه آخر، وذلك من كمال منته وعظيم عنايته بعباده، فلم يخلهم من نعمه، ولم يخلهم من النظر والتدبر في خلقهم ليستدلوا بالآيات النفسانية على عظم وطلاقة القدرة الإلهية، وليدركوا بذلك وجه النقص الذاتي فيهم في مقابل الكمال الذاتي اللازم لذات الرب، جل وعلا، فذلك ذريعة إلى الذل والخضوع له، فلا يتأمل عاقل حاله إلا ذل وانكسر، فلم ينازع الرب، جل وعلا، وصف جلاله، كما يقع من الطواغيت الذين غفلوا عن نقص أبدانهم وعقولهم فنازعوا الرب، عز وجل، أخص أوصاف ربوبيته، فمنهم من ادعى الملك على جهة الإطلاق، فـ: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، ومنهم من ادعى الألوهية فـ: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، ومنهم من جره سفهه فاعتقد في نفسه الربوبية تدبيرا فقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، ومنهم من اعتقد في غيره الربوبية تأثيرا فـ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا)، ومنهم من عارض حكم الملك، جل وعلا، بقياس عقله، فوقع في تأويل أخباره أو تعطيل أحكامه، فاستبدل أحكام العباد من المتشرعين المدعين بلسان حالهم ربوبية تدبير الأحوال ولو على ضد ما جاءت به الرسالات، فاستبدل أحكام أولئك بحكم الملك العليم بالحال والمآل الحكيم فلا يشرع إلا ما تستقيم به الأحوال، فلكل نصيب من منازعة الرب، جل وعلا، أوصاف كماله، وإنما تظهر صور في أزمان وتختفي في أزمان، كما ظهرت صور الفساد العلمي بالتعطيل والتأويل زمن المأمون العباسي ومن لف لفه في محنة خلق القرآن وزمن من تلاه من أرباب المقالات، وكما ظهرت صور الفساد العملي التعبدي بإحداث بدع الذكر والسماع ......... إلخ، وكما ظهرت صور الفساد العملي الحكمي في زماننا بتنحية الشرع المنزل، فليس له سلطان إلا في فروع بعينها لم تسلم من كيد العلمانيين فراحوا يتحرشون بها برسم التجديد والمساواة ..... إلخ!، ولو سكت الحق وهادن ما سكت الباطل فإنه أبدا متسلط على الحق بمقتضى سنة التدافع ليتناجزا: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، فيظهر الحق عليه،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير