تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

معانيها لا من جهة المتكلم بها، فكلها قد بدت من الرب، جل وعلا، على كيف لا يعلمه إلا هو، فليست الكلمة التي خلق بها المسيح عليه السلام كسائر الكلمات التكوينية التي خلقت بها سائر الكائنات، بل احتف بها من دلائل الإيجاد المعجز بخلقه من أم بلا أب ما اقتضى إفرادها بالذكر ونسبتها إلى الرب، جل وعلا، نسبة السبب إلى مسببَِّه، فهي سبب تلك الآية الباهرة وذلك ما جوز بل حسن في معرض التنبيه على طلاقة القدرة الربانية إفرادها بالذكر ونسبتها على وجه الخصوص إلى المتكلم بها، جل وعلا، وإن اشتركت مع سائر الكلمات الكونية في النسبة العامة إلى الرب جل وعلا، فكل الكلمات التي خلقت بها الكائنات: كلماته عموما، وتلك الكلمة بعينها والتي كان بها هذا الإيجاد المعجز، تلك الكلمة هي: كلمته خصوصا، فلا تعارض بينهما، إذ خص فرد من أفراد العموم بالذكر في معرض التنويه بشأنه فلا يخص العموم به، فليس النص على الكلمة التي بها خلق المسيح عليه السلام بمخرج بقية الكائنات التي خلقت بكلمات كونية تخصها، فكل مخلوق بكلمة كونية تلائمه، فذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، كما قرر أهل الأصول، بل تخصيص بعض الأفراد بالذكر لمعنى فيها اقتضى التخصيص كشرفه، مئنة من بلاغة المتكلم، ونص الكتاب العزيز أحق النصوص بوصف الفصاحة لفظا والبلاغة تركيبا.

فعلى هذا النحو، وبهذه النسبة إلى الرب الخالق الفاعل بصفاته الكاملة، تبارك وتعالى، لا يتطرق الشر إلى فعل الرب، جل وعلا، فالشر ليس إليه وصفا، وإن كان في خلقه كونا، فذلك كما تقدم، من صفات المخلوقات اللازمة فلا تنفك أوصاف النقص عنها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، و: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، فلا يهذب هذا النقص الكوني الجبلي إلا الوحي الشرعي، فالفعل الرباني موصوف بالكمال والحسن مطلقا وإن كان أثره في عالم الشهادة فيه من الشر الجبلي ما لا ينفك عنه، إذ خلق لحكمة أعظم، فهو من المراد لغيره، بخلاف فعل الرب، جل وعلا، فهو لكماله، لا يكون إلا مرادا لذاته، فانفكاك الجهة في النسبة إلى الخالق عز وجل فعلا، وإلى المخلوق وصفا جبليا بعارض النقص والفساد يحل الإشكال ويرفع الإجمال ببيان واف لكمال وصفه، جل وعلا، في مقابل النقص الكائن في خلقه والذي به يظهر كماله فالنقص في حد ذاته، بغض النظر عن كونه ذريعة إلى خير يفوق شره، دليل ينتفع به في إثبات كمال الرب، جل وعلا، وذلك من أجل ما سمت إليه نفوس الشرفاء من الأحرار برسم إخلاص العبودية له جل وعلا.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وبالنسبة إِلى العبد تنقسم إِلى خير وشر وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية وبراً وفجوراً، بل أَخص من ذلك، مثل كونها صلاة وصياماً وحجاً وزكاة وسرقة وأْكلاً وشرباً، إِذ ذلك موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه". اهـ

ص132.

وأما بالنسبة للبشر فإن النسبة تختلف، فليست نسبة الأفعال كلها إليه على حد سواء، كما هو الحال بالنسبة إلى الرب، جل وعلا، الذي تنسب إليه أفعال الكمال مطلقا، وإن وجد من أثرها ما هو فساد لازم لأعيان المخلوقات كما تقدم، فليست كل أفعال العبد كمالا، وليست كلها مشروعة، فذلك قول الاتحادية وغلاة الجبرية الذين سووا بين أمر الشرع وأمر الكون، بل سوى غلاتهم بين فعل العبد وفعل الرب، فجعلوا كل ما يفعله العبد، وإن قبح، محبوبا للرب، جل وعلا، لمجرد أنه أراد وجوده!، وغلا الاتحادية فجعلوا كل ما يفعله العبد هو عين ما يفعله الرب، جل وعلا، فالعين الفاعلة واحدة وإن اختلفت صورها الظاهرة فما العباد إلا مظاهر يتجلى فيها الرب جل وعلا بصفات جلاله وجماله كما قرر إمام الاتحادية: ابن عربي الطائي!، وذلك قول يكفي لبيان بطلانه حكايته فليس إلا محض فرض عقلي لمحال ذاتي إذ وصف الرب، جل وعلا، بالحلول في الصور المخلوقة، وإن شرفت، محال لذاته، لما يلزم منه من وصف الرب، جل وعلا، بأعراض الصور المخلوقة التي لا تنفك عن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير