تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمهما ابتغى الإنسان العزة في غير محالها من طاعة الرب، جل وعلا، الذي يعز من أطاعه وإن ناله الخلق بمقتضى سنة الابتلاء بصنوف الأذى، فإن تسلطهم على بدنه لا يقتضي تسلطهم على روحه، بل قد يهان البدن والروح مكرمة عزيزة، وقد نيل منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما كان ذلك إهانة له، بل كان من رفعة الدرجة التي تحصل للمبتلى فلولاها ما بلغ ما كتب له عند الله، عز وجل، من الكرامة، فذلك جار على مقتضى السنة الكونية بتعليق وقوع المسببات على أسبابها، فإن الكرامة درجة لا تنال إلا بسبب، فإن لم يبلغها العبد بعلمه، فإن الرب، جل وعلا، يبتليه بما يصير به أهلا لها، فتكون عين منحته في عين محنته لمن سدد إلى الحمد والرضا، فليس من شرط العزة: سلامة البدن من الأذى، بل الواقع شاهد بضد ذلك فأعظم الناس ابتلاءا أعظمهم إيمانا، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُوعَكُ وَعْكَ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ قُلْتُ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ نَعَمْ أَوْ أَجَلْ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحُتُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"، فتسلط أسباب الأذى على البدن من العوارض الكونية التي لا يسلم منها بشر، وإنما يصير كرامة أو إهانة بالنظر إلى حال صاحبها طاعة أو عصيانا، فالمرض قد يكون واحدا، والابتلاء بالضرب أو الحبس أو القتل ......... إلخ قد يكون واحدا في صورته، ومع ذلك يتفاوت أصحابه تفاوتا لا يعلم قدره إلى الرب، جل وعلا، العليم بمكنون الصدر وخبيئة النفس.

وعلى العكس قد يكون البدن مكرما في الظاهر، والروح ترسف في أغلال الذل فـ: "إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هَمْلَجَت بهم البغلات، وطقطقت بهم البراذين"، فأبدانهم قد بلغت ذروة التكريم، وأرواحهم لم تزل تعاني مرارة التوبيخ بما يرد عليها من عقوبات الإعراض عن الذكر فضنك وألم لا يصفه إلا أصحابه ممن حسنت ظواهرهم وقبحت سرائرهم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فالعزة من جنس القدرة والقوة وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِى خَيْر وَأَحَبُّ إِلَى اللهُ مَنَ الْمُؤْمِنِ الضعيف، وفى كل خير". فالقدرة إن لم يكن معها حكمة بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر فى العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان فعله فساداً كصاحب شهوات الغي والظلم، الذي يفعله بقوته ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإِن هذا وإن كان له قوة وعزة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده". اهـ

ص133.

فصفة الجلال إن لم تشفع بصفة الجمال صارت وبالا على صاحبها، فإن القدرة بلا حكمة مظنة الطغيان، فعند صاحبها من أسباب الشهوة ما يمكنه من نيل مراده، وليس عنده من أسباب العفة ما يحول بينه وبين نيلها بطريق محرمة تجلب له من الفساد والشر الآجل ما يفوق أضعاف أضعاف ما تجلبه له من اللذة العاجلة، فهي آنية عارضة سرعان ما تذهب سكرتها فتأتي الفكرة في عواقبها فتنغص على صاحبها ما توهمه من صلاح الحال بمباشرتها، ففساد القوة العلمية لغياب الحكمة الشرعية قد قلب ميزان عقله فرآى القبيح حسنا لاغتراره بظاهره، فليس عنده من حكمة الشرع ما يلجم شهواته، فقوته العملية كبيرة، وذلك من الكمال في القوة والعزة، وقوته العلمية ضئيلة وذلك من النقص في الحكمة فلم تغن القوة شيئا مع غياب الحكمة، وهذا حال كثير من ملوك وأمراء الجور فعندهم من السلطان ما عندهم وليس عندهم من العلم شيء تقريبا، كما لا تؤتي الحكمة أكلها بلا قوة وعزة تدفع عنها عدوان الصائل، فتلك من سنة التدافع التي أقيم عليها هذا الكون فأسبابه الكونية والشرعية في تدافع مستمر، فلا بد من القدرة جلالا والحكمة جمالا لينتظم أمر المخلوق فاجتماعهما في حقه كمال يمدح به لعدم تطرق النقص إليه من أي وجه، فيكون ذلك ثابتا للرب، جل وعلا، من باب أولى، فقياس الأولى في هذا الموضع: قياس صحيح، لكمال الوصف مطلقا وورود النص به.

يقول ابن القيم رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير