تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وكذلك العلم كماله أن تقترن به الحكمة وإلا فالعالم الذى لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سفيه غاوٍ، وعلمه عون له على الشر والفساد هذا إذا كان عالماً قادراً مريداً له إِرادة من غير حكمة، وإِن قدر أنه لا إرادة له فهذا أولاً ممتنع من الحي، فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إِرادة ممتنع كوجود إرادة بدون الشعور". اهـ

ص134.

فيمتنع أن يكون إنسان حي بلا إرادة، فلا بد أن تتحرك النفس في المعقولات فكرا فيتولد من ذلك تحرك البدن في المحسوسات أفعالا وجودية هي ترجمان التصور العلمي الباطن الذي يولد حركة عملية في القلب هي الإرادات الصالحة فتنتج لزوما أعمالا صالحة ظاهرة، فللفرع حكم الأصل، ولا يوجد جسد حساس متحرك بلا حب أو بغض، فإنه يلزمه أن يحب ويبغض ليبقى فلا يهلك فيحب ما به حياته، ويكره ما به فناؤه، وإنما يقع الفساد من جهة التصور بأن يظن المهلك منجيا فيحبه وهو أولى ما يبغضه العاقل، أو يظن المنجي مهلكا فيبغضه وهو أولى ما يحبه العاقل، فمن كره الجهاد بالنفس خشية تلف البدن، فقد استدفع المفسدة الصغرى بتلف بدن أو أبدان بارتكاب مفسدة أعظم بتلف الأديان وما ينتج منه لزوما من تلف الأبدان بتسلط الأعداء على الأبدان التي حرص أصحابها على صيانتها من عض السيوف، فسلموها لأعدائهم كاملة غير منقوصة، ليعضوها بسيوف الذلة والمهانة بعد أن كانت تنال بسيوف القتال في ميادين الوغى برسم العزة والكرامة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأما القدرة والقوة إذا قدر وجودها بدون إرادة فهي كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعية التى هي مبدأُ الفعل والحركة لا إِرادة لها". اهـ

ص133، 134.

فالجماد فاعل بالطبع لا بالإرادة فإن الفاعل بالإرادة لا يكون إلا حيا تقوم بذاته صفة الإرادة فإنها لا تقوم إلا بحي، ولا تكون إرادة إلا بعلم سابق، فهو التصور العلمي الأول الذي تصدر عنه الأفعال الوجودية في عالم الشهادة، ولله المثل الأعلى، فإنه وصف نفسه بالخلق، وذيل بوصف العلم، مئنة من سبق العلم للإرادة، فقد علم مقادير الكائنات المخلوقة أزلا، فأراد وجودها، إذ الإرادة فرع العلم، كما أن العلم فرع الحياة، فكلها صفات كمال لا تقوم بالجماد أو العدم، بل لا بد من ذات حية تقوم بها قيام الموصوف بوصفه، فقامت به، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله، ثم صدر عنها فعل خلقه لعباده بكلماته التكوينية النافذة، فنفذت إرادته الكونية العامة في خلقه، فجاء المخلوق وفق ما قد قدر أزلا، فالخلق متقن بحكمته، نافذ بقدرته وإرادته، مسبوق بعلمه المحيط لكل دقيق وجليل في كونه، فله أولية الذات وأولية صفات الكمال الثابت لها القائم بها على الوجه اللائق بجلاله تبارك وتعالى.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"والمقصود أَن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح وإِنما يحصل ذلك بالحكمة معها، واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته فى خلقه وأَمره فى إِرادته الدينية الكونية وهو حكيم فى كل ما خلقه وأَمر به". اهـ

ص134.

فله، عز وجل، كمال وصف الحكمة فيما أجرى من أسباب الكون وإن ظهر للإنسان خلاف ذلك بمقتضى ما جبل عليه من النظر إلى الظاهر دون تدبر لما وراءه من الحكم الجليلة التي تخفى على معظم المكلفين لا سيما في الأعصار والأمصار التي تسود فيها النظرة المادية المحجوبة بستار المادة الغليظ عن نور الحكمة الساطع، فحكمة الرب، جل وعلا، لا تدركها إلا نفوس لطيفة قد تخففت من الأسباب المادية، وإن لم تعطلها بالكلية، كما وقع من غلاة أهل الطريق لا سيما الجبرية منهم الذين أنكروا الأسباب فغلوا في الإرادة الكونية النافذة وأهملوا الإرادة الشرعية الحاكمة التي تقتضي بالأخذ بالأسباب على النحو المشروع، فتعطيلها قدح في العقول والشرائع. فليست القدرة بمفردها كافية، كما اطرد من القياس الأولوي على حال البشر، فقدرة مع نقص في العلم والحكمة مظنة الطيش والفساد، وقدرة وعلم بلا حكمة، لا تفي بالمراد فكم من قادر على فعل الصالح، مدرك لحدوده وأركانه، فقوته العملية والعلمية النظرية مكتملة، ولكنه ليس من الحكمة العملية في شيء فلا يقع معلومه في عالم الشهادة على ما سبق تصوره في عقله، فيعرف الصالح ولا يعرف كيف يوقعه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير