تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لنقص في حكمته التي بها يضع الشيء في موضعه.

وله، عز وجل، كمال الحكمة فيما أجرى من أسباب الشرع، فرسالاته، لا سيما الخاتمة، قد جاءت بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام، فلا شريعة تعدل شريعته، ولا حكم يضاهي حكمه، لنقص علم وحكمة غيره، فلا ينظر إلا إلى الحال دون المآل، على ما تقدم مرارا من قصور الشرائع الأرضية فهي لا تنظر إلا إلى علاقة الفرد المنتج بمجتمعه، فلا يعنيها إلا ما تنتفع به الجماعة من إنتاج الأفراد المادي، فنظرها إليه حتى فيما يصلح حاله من تعليم ونحوه، نظر نفعي، فلا يعنيها أن يتعلم لينفع نفسه بقدر ما يعنيها أن يتعلم ليكف عنها بأسه إذ التعليم النظامي يهذب صاحبه، أو هكذا يفترض أن يكون!، مع أنه، عند التحقيق، قليل الجدوى إن كان بمعزل عن الوحي، ولا يعنيها جلب المصالح له بقدر ما يعنيها درء مفاسده فهي شرائع سلبية احترازية ينظر فيها إلى جانب السلب بدرء المفاسد احتياطا دون جلب المنافع ابتداء، فما كان فيها من منفعة فبالتبع، بخلاف الشرائع السماوية فهي إيجابية، يعنيها في المقام الأول: جلب المصالح للفرد والجماعة فتعنى بأعمال الباطن والظاهر الإيجابية قبل عنايتها بالاحتراز بسلب ما يفسد الحال، ففعل جنس المنافع دينا أو دنيا أشرف من جنس درء المفاسد كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم.

والله أعلى وأعلم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وفي بعض الآثار: إِن الناس بطلبون العزة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إِلا في طاعة الله عز وجل. وفى الحديث: "اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِطَاعَتِكَ وَلا تُذِلَّنَا بِمعْصِيتكَ" وقال بعضهم: من أَراد عزاً بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة ". اهـ

فمهما ابتغى الإنسان العزة في غير محالها من طاعة الرب، جل وعلا، الذي يعز من أطاعه وإن ناله الخلق بمقتضى سنة الابتلاء بصنوف الأذى، فإن تسلطهم على بدنه لا يقتضي تسلطهم على روحه، بل قد يهان البدن والروح مكرمة عزيزة، وقد نيل منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما كان ذلك إهانة له، بل كان من رفعة الدرجة التي تحصل للمبتلى فلولاها ما بلغ ما كتب له عند الله، عز وجل، من الكرامة، فذلك جار على مقتضى السنة الكونية بتعليق وقوع المسببات على أسبابها، فإن الكرامة درجة لا تنال إلا بسبب، فإن لم يبلغها العبد بعلمه، فإن الرب، جل وعلا، يبتليه بما يصير به أهلا لها، فتكون عين منحته في عين محنته لمن سدد إلى الحمد والرضا، فليس من شرط العزة: سلامة البدن من الأذى، بل الواقع شاهد بضد ذلك فأعظم الناس ابتلاءا أعظمهم إيمانا، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُوعَكُ وَعْكَ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ قُلْتُ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ نَعَمْ أَوْ أَجَلْ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحُتُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"، فتسلط أسباب الأذى على البدن من العوارض الكونية التي لا يسلم منها بشر، وإنما يصير كرامة أو إهانة بالنظر إلى حال صاحبها طاعة أو عصيانا، فالمرض قد يكون واحدا، والابتلاء بالضرب أو الحبس أو القتل ......... إلخ قد يكون واحدا في صورته، ومع ذلك يتفاوت أصحابه تفاوتا لا يعلم قدره إلى الرب، جل وعلا، العليم بمكنون الصدر وخبيئة النفس.

وعلى العكس قد يكون البدن مكرما في الظاهر، والروح ترسف في أغلال الذل فـ: "إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هَمْلَجَت بهم البغلات، وطقطقت بهم البراذين"، فأبدانهم قد بلغت ذروة التكريم، وأرواحهم لم تزل تعاني مرارة التوبيخ بما يرد عليها من عقوبات الإعراض عن الذكر فضنك وألم لا يصفه إلا أصحابه ممن حسنت ظواهرهم وقبحت سرائرهم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير