تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالجماد فاعل بالطبع لا بالإرادة فإن الفاعل بالإرادة لا يكون إلا حيا تقوم بذاته صفة الإرادة فإنها لا تقوم إلا بحي، ولا تكون إرادة إلا بعلم سابق، فهو التصور العلمي الأول الذي تصدر عنه الأفعال الوجودية في عالم الشهادة، ولله المثل الأعلى، فإنه وصف نفسه بالخلق، وذيل بوصف العلم، مئنة من سبق العلم للإرادة، فقد علم مقادير الكائنات المخلوقة أزلا، فأراد وجودها، إذ الإرادة فرع العلم، كما أن العلم فرع الحياة، فكلها صفات كمال لا تقوم بالجماد أو العدم، بل لا بد من ذات حية تقوم بها قيام الموصوف بوصفه، فقامت به، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله، ثم صدر عنها فعل خلقه لعباده بكلماته التكوينية النافذة، فنفذت إرادته الكونية العامة في خلقه، فجاء المخلوق وفق ما قد قدر أزلا، فالخلق متقن بحكمته، نافذ بقدرته وإرادته، مسبوق بعلمه المحيط لكل دقيق وجليل في كونه، فله أولية الذات وأولية صفات الكمال الثابت لها القائم بها على الوجه اللائق بجلاله تبارك وتعالى.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"والمقصود أَن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح وإِنما يحصل ذلك بالحكمة معها، واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته فى خلقه وأَمره فى إِرادته الدينية الكونية وهو حكيم فى كل ما خلقه وأَمر به". اهـ

ص134.

فله، عز وجل، كمال وصف الحكمة فيما أجرى من أسباب الكون وإن ظهر للإنسان خلاف ذلك بمقتضى ما جبل عليه من النظر إلى الظاهر دون تدبر لما وراءه من الحكم الجليلة التي تخفى على معظم المكلفين لا سيما في الأعصار والأمصار التي تسود فيها النظرة المادية المحجوبة بستار المادة الغليظ عن نور الحكمة الساطع، فحكمة الرب، جل وعلا، لا تدركها إلا نفوس لطيفة قد تخففت من الأسباب المادية، وإن لم تعطلها بالكلية، كما وقع من غلاة أهل الطريق لا سيما الجبرية منهم الذين أنكروا الأسباب فغلوا في الإرادة الكونية النافذة وأهملوا الإرادة الشرعية الحاكمة التي تقتضي بالأخذ بالأسباب على النحو المشروع، فتعطيلها قدح في العقول والشرائع. فليست القدرة بمفردها كافية، كما اطرد من القياس الأولوي على حال البشر، فقدرة مع نقص في العلم والحكمة مظنة الطيش والفساد، وقدرة وعلم بلا حكمة، لا تفي بالمراد فكم من قادر على فعل الصالح، مدرك لحدوده وأركانه، فقوته العملية والعلمية النظرية مكتملة، ولكنه ليس من الحكمة العملية في شيء فلا يقع معلومه في عالم الشهادة على ما سبق تصوره في عقله، فيعرف الصالح ولا يعرف كيف يوقعه لنقص في حكمته التي بها يضع الشيء في موضعه.

وله، عز وجل، كمال الحكمة فيما أجرى من أسباب الشرع، فرسالاته، لا سيما الخاتمة، قد جاءت بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام، فلا شريعة تعدل شريعته، ولا حكم يضاهي حكمه، لنقص علم وحكمة غيره، فلا ينظر إلا إلى الحال دون المآل، على ما تقدم مرارا من قصور الشرائع الأرضية فهي لا تنظر إلا إلى علاقة الفرد المنتج بمجتمعه، فلا يعنيها إلا ما تنتفع به الجماعة من إنتاج الأفراد المادي، فنظرها إليه حتى فيما يصلح حاله من تعليم ونحوه، نظر نفعي، فلا يعنيها أن يتعلم لينفع نفسه بقدر ما يعنيها أن يتعلم ليكف عنها بأسه إذ التعليم النظامي يهذب صاحبه، أو هكذا يفترض أن يكون!، مع أنه، عند التحقيق، قليل الجدوى إن كان بمعزل عن الوحي، ولا يعنيها جلب المصالح له بقدر ما يعنيها درء مفاسده فهي شرائع سلبية احترازية ينظر فيها إلى جانب السلب بدرء المفاسد احتياطا دون جلب المنافع ابتداء، فما كان فيها من منفعة فبالتبع، بخلاف الشرائع السماوية فهي إيجابية، يعنيها في المقام الأول: جلب المصالح للفرد والجماعة فتعنى بأعمال الباطن والظاهر الإيجابية قبل عنايتها بالاحتراز بسلب ما يفسد الحال، ففعل جنس المنافع دينا أو دنيا أشرف من جنس درء المفاسد كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 02 - 2010, 08:12 ص]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير