تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والمعتزلة القائلين بخلقها في شجرة كلمت موسى عليه السلام، والفلاسفة النافين لها ولما صدرت عنه من أوصاف الفعل، فاضطروا إلى نسبة هذا الكون إلى الرب، جل وعلا، نسبة المولود إلى والده، على جهة الاضطرار، لنفيهم، كما تقدم، صفة الإرادة وما يسبقها من العلم والقدرة، فهم نفاة معطلة لأوصاف المعبود، جل وعلا، وإنما أثبتوا وجودا مطلقا بشرط الإطلاق هو العدم بعينه خارج الذهن، وإن جاز افتراضه فيه: افتراضا عقليا محضا لا حقيقة له!، ثم ثنوا بمقالة مقارنة المعلول لعلته، وذلك أمر يخالف بدائه العقول، إذ العلة سابقة لمعلولها في الوجود، فعلة الشبع، على سبيل المثال، الأكل، والأكل يتقدم الشبع فلا يقارنه أو يتأخر عنه، وإنما يباشر الآكل الفعل الذي هو العلة، فإذا انتهى منه وجد أثر المعلول وهو الشبع فهو تال له، فكذلك العالم يصدر عن علته وهو الكلمة التكوينية النافذة على جهة التعقيب فعقيب الكلمة يكون الخلق، على وزان قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فأدتهم تلك المخالفة لهذه المسلمة العقلية إلى القول بقدم العالم، فغاية تقدم العلة عندهم أنه: تقدم في الرتبة، لا في الزمان، فالله، عز وجل، مقدم، على الكون المخلوق في الرتبة، وذلك مما اتفق عليه سائر العقلاء فهو من البداهة بمكان فالخالق أعلى رتبة من المخلوق، ولكنه عندهم: مقارن له في الوجود!، وذلك نقص صريح لصفة أولية الرب، جل وعلا، الأولية المطلقة، بذاته القدسية وصفاته العلية، فهو الأول فليس قبله شيء، فضلا عن نقضه لنصوص صحيحة صريحة تدل على حدوث سائر المخلوقات من العرش إلى القلم إلى السماوات والأرض ....... إلخ، فكانت عدما حتى شاء الرب، جل وعلا، بكلماته الكونية النافذة: وجودها، فبـ: "كن" كانت، فليست قديمة قدم الذات الإلهية، بل هي صادرة عن أوصافها الفاعلة، كما تقدم، فهو تبارك وتعالى: الفعال لما يريد على جهة المبالغة والتجدد الذي تفيده صيغة المبالغة فهي فرع عن المضارع في المعنى، فاتصف، جل وعلا، بإيجاد الكائنات من الأزل إلى الأبد، فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن، كما في حديث: "كان الله ولم يكن شيء قبله - وفي رواية: غيره - وفي رواية: معه - وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كلّ شيء، ثم خلق السموات والأرض"، فذلك نص صريح في المسألة يقطع بأولية الرب، جل وعلا، مطلقا، ويبطل قول الفلاسفة ومن زعم تعدد القدماء معه من النصارى الذين قالوا بقدم الأقنومين: الروح والكلمة، والمعتزلة الذين زعموا أن الصفات قائمة بذاتها فنفوها لئلا يلزم من إثباتها تعدد القدماء بعددها، وهو أمر يخالف بدائه العقول القاضية بأن الصفة لا تقوم إلا بالموصوف، والموصوف قد يتصف بجملة منها، بل كلما زادت أوصاف الكمال ثبوتا، كان ذلك آكد في مدح الموصوف، ولله المثل الأعلى، فإن له من أوصاف الكمال ما لا يعلمه إلا هو، فلسان مقال أعلم الخلق به صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

ولا يجد المرء بعد تقليب ناظريه في مقالات الأمم: مقالة أصح وأليق بالعقل الصريح فضلا عن موافقتها ابتداء للنقل الصحيح من مقالة أهل الإسلام عموما، ومقالة أهل السنة خصوصا، وذلك أمر يعم سائر أحكام الدين أصولا وفروعا، و: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).

وقد جمع الرب، جل وعلا، في قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، ما يبطل قول كلا الفريقين:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير