تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأولئك الذين عظموا جانب القدرة، وجفوا في جانب الحكمة، كما تقدم في أكثر من موضع، فغلبوا وصف الجلال على وصف الجمال، وقد أوقعهم ذلك في جملة من المقالات الحادثة: كالقول بالجبر بالغلو في إثبات القدرة، فيبطل اختيار المكلف بإرادته التي هي من جملة أسباب وقوع الفعل وإن لم تكن السبب الوحيد فلا بد من تضافر جملة أسباب خاضعة للإرادة الربانية النافذة، بمجموعها يقع الفعل، فله وجه تعلق بإرادة العبد فهو فاعله، وله وجه تعلق بإرادة الرب، جل وعلا، فهو خالقه، وإلى ذلك أشار ابن القيم رحمه الله:

"ومعاذ الله والله أكبر وأجل وأعظم وأعز أن يكون في عبده شيء غير مخلوق له ولا هو داخل تحت قدرته ومشيئته فما قدر الله حق قدره من زعم ذلك ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه بل العبد جسمه وروحه وصفاته وأفعاله ودواعيه وكل ذرة فيه مخلوق لله خلقا تصرف به في عبده وقد بينا أن قدرته وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء سبب الفعل غير مستقل بإيجاده ومع ذلك فهذا الجزء مخلوق لله فيه فهو عبد مخلوق من كل وجه وبكل اعتبار وفقره إلى خالقه وبارئه من لوازم ذاته وقلبه بيد خالقه وبين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء فيجعله مريدا لما شاء وقوعه منه كارها لما لم يشأ وقوعه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن". اهـ

"شفاء العليل"، ص233.

ويقول في موضع تال:

"والصواب أن يقال تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة السبب إلى مسببه ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق فلا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين قدرة أحدهما أثر لقدرة الآخر وهي جزء سبب وقدرة القادر الآخر مستقلة بالتأثير". اهـ

"شفاء العليل"، ص236.

فلا بد من إثبات كلا الإرادتين، فمن غلا في إثبات إرادة الرب، جل وعلا، فقد غلب وصف الجلال، فأهمل الحكمة التي تتعلق بتكليف العبد بالفعل الاختياري الذي يفرق العقل بينه وبين الفعل الاضطراري بداهة، فالأول كائن بإرادة مؤثرة كالصلاة والزكاة فلا يوقعهما المكلف إلا اختيارا وذلك أمر يجده كل مكلف في نفسه فإنكاره ورد الأمر بجملته إلى الإرادة الكونية إنكار لأمر وجداني قد علمه كل فاعل من نفسه بالضرورة التي لا ينكرها إلا مسفسط فهو يعلم اضطرارا أنه غير مريد ولا مختار لحركة أحشائه، ويعلم على ذات الحد من الاضطرار أنه مريد مختار لما يوقعه من الأفعال الاختيارية سواء أكانت عبادات كالصلاة أم عادات كالأكل والشرب والنكاح ......... إلخ، والثاني قائم بالعبد اضطرارا كالمرض والموت، فيتصف بهما الإنسان، ولا إرادة له في وقوعهما لتعلقهما بالمشيئة الكونية العامة، ولو باشر سببهما كمن تعرض لأسباب المرض، فخفف ثيابه في الأجواء الباردة، أو أسباب الموت فاحتسى سما قاتلا، فإن وقوع المرض والموت لا يكون إلا بإذن الرب، جل وعلا، فقد يخفف الثياب ولا يمرض، وقد يحتسي السم فلا يموت، وإن جرت العادة بخلاف ذلك، والشاهد أن الفرقان بين النوعين: أمر مدرك بالشرع والعقل والحس والفطرة فلا يماري فيه إلا مسفسط، ولازم الغلو في إثبات القدرة الربانية: الإهمال في إثبات القدرة البشرية، وذلك ذريعة إلى القول بالجبر، كما تقدم، فيسوي بين الإرادة الكونية التي تقع حتما، والإرادة الشرعية التي تتعلق بمحبة الله، عز وجل، فتصير كلها كونية، ولازم ذلك الرضا بكل الأحداث الكونية ولو كانت معاص بل كفرا، بحجة أنها مرادة للرب، جل وعلا، كونا، وما أراده كونا، بلازم هذا القول فقد أراده شرعا، ولو كان قبيحا، وذلك مزلق وقع فيه من وقع من المتكلمين الذين نفوا صفة المحبة، فأولوها بالإرادة دون تفصيل، فإن من الإرادة ما يصح تعلقه بالمحبة وهو الإرادة الشرعية، ومنها ما لا يصح تعلقها به وهو الإرادة الكونية لشمولها المحبوب والمكروه للرب، جل وعلا، وإلى طرف من طريقة أصحاب هذا القول أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير