"وهم قد يقولون لا يُحبّه ديناً، (أي: الكفر أو المعصية)، ولا يرضاه ديناً، كما يقولون: لا يريده ديناً؛ أي لا يريد أن يكون فاعله مأجوراً، وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات؛ فإنّها عندهم محبوبة له؛ إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق؛ فكل مخلوق، فهو عندهم محبوب مرضيّ.
وجماهير المسلمين يعرفون أنّ هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل، وأنّ المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أنّ الله لا يُحبّ الشرك، ولا تكذيب الرسل، ولا يرضى ذلك، بل هو يُبغض ذلك ويمقته ويكرهه؛ كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرّمات، ثمّ قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَاْنَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوْهَاً} ". اهـ
"النبوات"، (1/ 191).
فهو قول غريب ينافي ما يجده الإنسان من نفسه اضطرار من حب للموافق وبغض للمخالف فمن التزمه فقد أبطل شعورا ضرويا في كل ذات متحركة حساسة تحب وتبغض، توالي وتعادي، وإن كانت على باطل، وذلك أمر جار في الشرعيات والعاديات فالإنسان يفرق فيهما بين المحبوب النافع والمكروه الضار، ولو من وجهة نظره، فقد يفسد عقله أو حسه فيحب المكروه من الكفر والمعصية شرعا، ويحب الضار الفاسد عادة، كمن اعتاد شرب المسكر أو أكل الخنزير حتى صار يتلذذ بهما مع كونهما معدن فساد للبدن، ولكن فساد حسه وجبلته قد جعله يتلذذ بعين ما فيه فساده.
ومؤدى هذا القول عدم إنكار المنكر، إذ هو مما يحب الله، عز وجل، وقوعه، وذلك ما التزمه الجبرية، وهو مسلك كثير من المتأخرين من أهل الطريق، فلا ينكرون على كافر أو عاص، إذ الكون بأسره: ذوات وأفعالا: محبوب للرب، جل وعلا، لأنه شاء إيجاده، وإن كان من ذواته النجس ومن أفعاله القبيح!، فأدى ذلك إلى إبطال كثير من العبادات التي مبناها المدافعة، لا سيما الجهاد الذي قعد عنه كثير منهم بحجة الرضا بالمقدور، وذلك ما صادف في الأعصار المتأخرة هوى عند المحتل الذي لم يجد وسيلة أنجع من هذه الوسيلة لتخدير همم المسلمين فلا تنهض لمناجزته بسيف الشريعة، وإنما يكون ذلك بعد بذل السبب المقدور واستفراغ الجهد، فيسلم العبد بعدها ويرضى، وإن لم يكن الأمر على ما أراده، إذ لا حيلة له في إجراء المقادير، وإنما غايته بذل السبب طلبا لوقوعها على مراد الرب، جل وعلا، الشرعي، فذلك مناط التكليف.
فالرب، جل وعلا، يخلق الشر بمشيئته العامة لكل الكائنات، وهو مع ذلك، يريده، لحكمة، لا لمجرد إظهار آثار القدرة، كما قال نفاة الحكمة والتعليل في أفعاله، عز وجل، فبه تستخرج من أجناس المصالح والعبوديات ما هو أضعاف أضعاف مفسدة وقوعه، فيريده لغيره لا لذاته، فمن هذا الوجه تظهر آثار حكمته وتثبت مع ذلك آثار قدرته، فهي ثابتة في كل الأحوال سواء أكان المراد خيرا محضا أريد لذاته أو شرا يتوصل به إلى خير أعظم، فكلاهما كائن بمشيئته، عز وجل، العامة النافذة في خلقه، فلا شيء من هذا الكون أعيانا أو أفعالا خارج عن سلطانه عز وجل.
ومن فروع هذه المقالة: إنكار التحسين والتقبيح برد الأمر إلى الشرع جملة وتفصيلا فلا يدل العقل على الحسن والقبح الذاتي الكائن في الأفعال بمقتضى ما ركب الله، عز وجل، فيه من قوى الإدراك والتمييز بين الأعيان: طيبها وخبيثها، والأفعال: حسنها وقبيحها، وإنما امتنعت دلالته على تعلق الثواب بالحسن، والعقاب بالقبيح، فذلك مما لا يستقل العقل بإدراكه فلا بد له من اتباع خبر الوحي: اتباع المقلد لمفتيه، فالفتوى في الشرعيات لا تتلقى إلا من مشكاة النبوات.
والغلو في إثبات القدرة، ذريعة إلى إبطال النبوات التي جاءت بالشرائع، فهي من آثار الحكمة، فإذا كان التكليف جبرا لا اختيار فيه فعلام بعثت الرسل عليهم السلام بـ: افعل ولا تفعل؟!.
وآخر درجات الغلو في هذا الأمر هي: الوقوع في مقالة الحلول والاتحاد، فإذا كانت كل حركة في الكون منه، جل وعلا، فعلا لا خلقا، فهو، بزعمهم، فاعل كل شيء في الكون، والصحيح أنه خالقه، فإن ذلك ذريعة إلى القول بأنه قد حل بذاته القدسية في هذا الكون فيكون الاتحاد في الفعل ذريعة إلى الاتحاد في الذات.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 03 - 2010, 08:16 ص]ـ
¥