تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأما الطائفة الثالثة فهي على الضد من الطائفة الثانية على ما اطرد من التناقض بين الطرفين الحادثين لأي مقالة في الديانة فغلو يرد بجفاء أو العكس، وقد يجتمع كلاهما، كما في هذا الموضع، فالجبرية: غلاة في القدرة جفاة في الحكمة، والقدرية النفاة: غلاة في الحكمة جفاة في القدرة، وبينهما الطائفة الوسط التي أثبتت الحق في مقالة كليهما ونفت الباطل فمستندها في ذلك الوحي الذي جاء بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام، وعن الطائفة الثالثة يقول ابن القيم رحمه الله:

" والطائفة الثالثة أقرت بحكمته أثبتت الأَسباب والعلل والغايات في أَفعاله وأَحكامه، وجحدت كمال قدرته، فنفت قدرته على شطر العالم وهو أَشرف ما فيه من أَفعال الملائكة والجن والإِنس وطاعاتهم، بل عندهم هذه كلها لا تدخل تحت مقدوره تعالى، ولا يوصف بالقدرة عليها ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه، وليس فى مقدوره عندهم أَن يجعل المؤمن مؤمناً والمصلي مصلياً والموفق موفقاً، بل هو الذي جعل نفسه كذلك!. وعندهم أَن أَفعال العباد من الملائكة والجن والإِنس كانت بغير مشيئته واختياره فتعالى الله عن قولهم، وهؤلاءِ سلطوا عليهم نفاة الحكمة والتعليل والأَسباب فمزقوهم كل ممزق ووجدوا طريقاً وسيعاً إلى الشناعة عليهم، وأَبدوا تناقضهم فقالوا وشنعوا، ورموهم بكل داهية. أو نفى قدرة الرب تعالى على شطر المملكة له لوازم فى غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاءِ، ونفى التزامها تناقض بين، فصاروا بذلك بين التناقض - وهو أحسن حالهم - وبين التزام تلك العظائم التى تخرج عن الإِيمان، كما كان نفاة الحكمة والأَسباب والغايات كذلك". اهـ

ص135.

فالتزموا إثبات حكمة من جنس الحكمة الكائنة في أفعال البشر، فهم، كما تقدم مرارا، مشبهة في الأفعال، بقياس أفعال الرب، جل وعلا، على أفعال البشر، قياس تمثيل أو شمول فاسد، فما يحسن من البشر يحسن من الرب، وما لا فلا، فالرب، عز وجل، عندهم، من باب الإلزام فلم يقولوا ذلك صراحة: فرد من أفراد النوع الإنساني، مع ما بين الذاتين من التباين الذي لا يعلمه إلا الله، عز وجل، إذ لا يعلم كمال وصفه إلا هو، فالتسوية بين الوصفين لمجرد الاشتراك في الاسم والمعنى الكلي دون نظر إلى قدر الموصوف به، فلا يستوي قدر الرب، جل وعلا، وقدر العبد، فالأول له الكمال المطلق، والثاني إن ثبت له كمال فمشوب بالنقص الجبلي الذ لا ينفك عن أي مخلوق علوي أو سفلي فبه يظهر القدر الفارق بين مقام الربوبية ومقام العبودية، فالأول مستلزم بداهة لأوصاف الكمال إحاطة وعناية وتدبيرا وإيجادا وإعداما ....... إلخ من أوصاف ولوازم الربوبية، والثاني مستلزم بداهة لأوصاف النقص من الغفلة وعدم الإحاطة فعلم المخلوق كذاته محدود فمهما عظم فله حد ينتهي عنده هو أقصى ما تبلغه مدركاته العقلية الباطنة والحسية الظاهرة، فعقله لا يدرك من المعقولات إلا ما يطيق، فيدرك في باب الأسماء والصفات على سبيل المثال: المعاني الكلية لا الحقائق التي تؤول إليها الألفاظ، فلا يدرك كنه ذات ووصف الرب، جل وعلا، إلا هو، وإن أدرك أهل الجنة منه شيئا لمكان الكرامة برؤيته، عز وجل، فهو إدراك غير محيط، فلا منتهى لكمال الرب، جل وعلا، ذاتا وصفات، ليدركه العقل أو الحس الذي له: منتهى يقف عنده، مهما عظم إدراكه، فالمنتهي المحدود لا يدرك غير المنتهي وغير المحدود، بداهة، فلا يمكن أن تكون حكمة الرب، جل وعلا، في تدبير أمر كونه من جنس حكمة العبد في تدبير أمر معاشه، فالرب، جل وعلا، كل يوم هو في شأن، وشأنه كوني عام، فيدبر بأوامره الكونية النافذة أمور خلقه جميعا، فأمره: عام نافذ في كل خلقه لا راد له، وأمر العبد: خاص في شأنه وإن تعدى إلى غيره فعمومه مخصوص وإن عظم ملكه فإنه لا يضاهي ملك ربه، عز وجل، فملك العبد مقيد، وملك الرب، جل وعلا، مطلق، وتدبير العبد: خاص، وتدبير الرب، جل وعلا، عام، وتدبير العبد من جهة أخرى مقيد بالأمر الشرعي، وتدبير الرب مطلق فلا راد لأمره الكوني النافذ، فجعل حكمة الرب، جل وعلا، من جنس حكمة العبد، غلو في الإثبات خرج بصاحبه إلى حد التشبيه في الأفعال، كما خرج الغلو بآخرين في باب الصفات إلى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير