تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكذلك أفعاله، عز وجل، قد بلغت الغاية في الحكمة، وإن خفي وجهها على كثير من منكري تعليل الأحكام، فلا يثبتون لأفعال الله، عز وجل، حكمة، وإنما يردون الأمر إلى محض المشيئة، فيغلبون جانب العزة على جانب الحكمة، والرب، جل وعلا، عزيز بقدرته حكيم بعلمه، فلا بد من استيفاء أوصاف الجلال والجمال في حقه ليثبت له الكمال اللائق بجلاله، فمن أنكر الحكمة فقد غلا في وصف الجلال حتى نسبه، عز وجل، بلازم قوله إلى الظلم فإن العزة بلا حكمة مظنة الظلم، ومن أنكر القدرة فقد غلا في وصف الجمال، حتى نسبه، عز وجل، إلى العجز، فليس له من القدرة ما يقع به فعله في كونه إيجادا للأعيان والأفعال، فيكون في كونه ما لا يشاؤه، ويشاء ما لا يكون، فقد نظر إلى جهة العدل، وغفل عن جهة القوة، بخلاف الأول الذي نظر إلى جهة القوة وغفل عن جهة العدل، وكلاهما قد وقع في التشبيه، فالأول شبه حكمة الرب، جل وعلا، بحكمة البشر التي ينالون بها أغراضهم التي يفتقرون إليها فنفرت نفسه من وصفه، جل وعلا، بالافتقار إلى حاجة أو غرض، وهو نفور صحيح ولكنه لا يلزم مثبت الحكمة له، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فلما تقرر عنده هذا الإلزام الفاسد انتقل لزوما إلى نفيه ونفي الحق معه، إذ جعله لازما للحق، وليس بذلك، ومن نفى ما اعتقده لازما لشيء نفى ملزومه بداهة، فإذا كان وصف الحكمة عنده لا يعني إلا حكمة من جنس حكمة البشر الذين يفتقرون إلى الأغراض، فإنه إن نفى لازمها من الحاجة فسينفيها لزوما، فرارا، كما تقدم، مما ألزم به نفسه، وليس بلازم، فهذا وجه كونه مشبها لحكمة الرب، جل وعلا، بحكمة خلقه.

وأما الطرف الآخر فإنه مشبه صراحة إذ لم يثبت حكمة في فعل الرب، جل وعلا، إلا من جنس حكمة البشر، فوضع لأفعاله، عز وجل، قانونا في التحسين والتقبيح من جنس ما يسري على أفعال البشر، فكل ما حسن منهم حسن منه، وكل ما قبح منهم قبح منه!، فيستحيل عندهم أن يقدر على العبد فعله بعلمه الأزلي الأول ثم يؤاخذه عليه، لأن ذلك مستحيل في حق البشر، وكأن تقديره من جنس تقدير البشر، وقد علم باستقراء النصوص أن من الأفعال ما يجوز في حق الله، عز وجل، ولا يجوز في حق البشر، لكمال قدرته وحكمته، عز وجل، فـ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته وليس للمخلوق أن يقسم إلا بذاته القدسية أو أسمائه الحسنى فهي أعلام على ذاته، أو صفاته فهي قائمة بذاته، فصفاته منه، عز وجل، كما قرر المحققون في تعريف اسم الله عز وجل العلم: "الله" فهو الاسم الدال على الذات القدسية التي تقوم بها الصفات العلية على الوجه اللائق برب البرية جل وعلا.

ويجوز في حقه، عز وجل، أن يربي الصدقات، فيعطي على الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء، ولا يجوز ذلك في حق البشر، فالربا بينهم حرام، فيفتقرون إلى من يقرضهم إذا احتاجوا، فيلجئهم ذلك إلى الاقتراض بالربا، بخلاف الرب، جل وعلا، فإنه الغني على حد الإطلاق، بل هو، كما تقدم مرارا، المغني لمن سواه، فيعطي من شاء ما شاء كيف شاء، فله من أوصاف العزة والغنى والحكمة ما ليس للبشر الموسومين بالعجز والظلم وهو في حقيقته نوع من العجز والفقر فلا يظلم إلا فقير عاجز عن تحصيل مراده إلا بظلم غيره، والفقر، فذلك وصف لازم لذواتهم، والسفه، فليس لهم ما له، عز وجل، من الحكمة البالغة، فهم ما بين سفيه، وحكيم حكمته من جنس خلقته: حكمة مخلوقة لا تستقل بإدراك وجه المصلحة إن لم تلجأ إلى الوحي، فغايتها أن تدرك وجه المصلحة الحالي، فلا تدرك عواقب الأمور ومآلاتها لقصور علمها بما استأثر به الرب، جل وعلا، من الغيب، فعلمه بالغيب قرين حكمته، فيعلم من حال العباد ومستقبلهم ما لا يعلمون، وبذلك باين شرعه شرائع البشر التي لا يعلم واضعوها إلا وجه المصلحة في الحال وإن ترتب عليه من فساد المآل ما ترتب فتضطرب شرائعهم وتتبدل بما يجد لهم من العلم بالغيب الذي كان خافيا عنهم، بخلاف علمه، عز وجل، المحيط بالحال والمآل، فهو مظنة الحكمة البالغة فلا يقع في شرائعه المحكمات التي لا تتلقى إلا من مشكاة النبوات ما يقع في شرائع البشر المضطربات فما هي إلا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير