تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تخصيصاً لمثل على مثل بلا سبب أَصلاً ولا حكمة، فهؤلاءِ لم يثبتوا له كمال الحمد، كما لم يثبت له أُولئك كمال الملك، وكلا القولين منكر عند السلف وجمهور الأُمة". اهـ

ص140.

فأشار ابن القيم، رحمه الله، إلى التلازم بين الحمد والحكمة، فإن القدرية النفاة عطلوا أوصاف الجلال الثابتة لله، عز وجل، فنفوا تقديره السابق وإيجاده اللاحق، فعطلوا جزءا من معنى الحمد بتعطيل معاني الجلال، وفي المقابل فإن نفاة الحكمة والتعليل في أفعاله، عز وجل، والغالب على حالهم الجبر، عطلوا معنى الحكمة، وهو من أوصاف الجمال الثابتة للرب، جل وعلا، فعطلوا جزءا آخر من معنى الحمد غير الجزء الذي عطله الأولون، فغلاة النفاة: حمدوه جل وعلا بوصف الجمال من الحكمة وعطلوه عن وصف الجلال بالقدرة على الخلق والتقدير. وغلاة الجبرية: حمدوه، تبارك وتعالى، بوصف الجلال من القدرة، حتى أثبتوا قدرة بلا حكمة، بلازم مقالتهم في نفي الأسباب، ونفي التعليل بها، فإن التعليل بها من آثار حكمته، جل وعلا، في كونه، إذ أقيم الشرع والكون، على جملة من الأسباب الشرعية والكونية يتوصل بها إلى مسبباتها، فيتوصل، كما تقدم في مواضع سابقة، بالسبب الشرعي إلى مسببه من الثواب، ويتوصل بالسبب الكوني إلى مسببه من الخير أو الشر، بمقتضى ما ركز الرب، جل وعلا، في الأسباب من القوى الفاعلة المؤثرة التي لا تنتج مسبباتها إلا بإذن خالق الأسباب ومجريها جل وعلا، فمرد الأمر إليه انتهاء، وهي أعم من أسباب الشرع من جهة شمولها: أسباب الخير والشر معا، بخلاف أسباب الشرع فإنها تقتصر على أسباب الخير فقط، إذ الأولى متعلق المشيئة، والمشيئة تكون لما أحب الرب، جل وعلا، ولما كره، فيشاء كليهما خلقا وإيجادا، والثانية متعلق المحبة، فلا تكون إلا لما يحبه الرب، جل وعلا، ويرضاه مما وافق شرعه، فلا يحب إلا المشروع من الطاعة، وإن لم يشأ وقوعه، ولا يبغض إلا المحظور من المعصية، وإن شاء وقوعه، فجهة المشيئة أعم من جهة المحبة، وأما أهل السنة فإنهم الذين انفردوا بحمده، جل وعلا، بكلا الوصفين: فأثبتوا القدرة والحكمة معا، فالله، عز وجل، قدير على كل الممكنات، حكيم في إجراء الأسباب فتؤدي إلى مسبباتها في عالم الشهادة على وفق ما قدر في عالم الغيب، فلا يكون كمال الحمد إلا بوصف الجلال مشيئة لكل الموجودات، فما شاء منها كان وإن اجتمع الخلق كلهم أجمعون لمنعه، وما لم يشأ لم يكن، وإن اجتمع الخلق كلهم أجمعون لإيجاده، ووصف الجمال حكمة في تسيير وتدبير الكائنات، فبالأسباب الشرعية والكونية، كما تقدم، ينتظم أمر المكلف في الدنيا: صلاح حال، وفي الآخرة: صلاح مآل، فيباشر جملة من الأسباب الكونية يصلح بها بدنه، وجملة من الأسباب الشرعية يصلح بها روحه.

وأشار إلى مذهب الكسب الذي جعل اقتران القوى والطبائع بالمفعولات الكائنة في عالم الشهادة: اقترانا عاديا، كما تقدم في مواضع سابقة من مثال النار الحارقة التي يقع الإحراق عندها لا بها فهي كالعلامة الوضعية فلا تأثير لها حقيقة في وقوع المفعول فالحريق لا ينتج من قوى الإحراق الفاعلة وإنما ينتج عند علامة الاشتعال التي تصادف وقوع الحريق وذلك أمر ينكره الحس الذي يدرك بداهة تأثير العلة في وقوع معلولها، فالنار تؤثر في وقوع الحريق بما أودع الرب، جل وعلا، فيها من قوى الإحراق، وإن كانت علة غير تامة من جهة افتقارها إلى علل أخرى تعضدها وانتفاء ما يبطلها كقوى الإطفاء في الماء، والعلل كلها، كما تقدم مرارا، تتسلسل حتى تصل إلى علة لا علة ورائها، إذ التسلسل في الفاعلين ممتنع، فبها توجد العلل المخلوقة إذ هي كلمة كونية غير مخلوقة، بها يكون المخلوق فيشاء الرب، جل وعلا، جريان الأسباب المؤدية إليه إما: عادة كخلق الابن من أب وأم، وإما إعجازا بخرق العادة كخلق المسيح عليه السلام من أم بلا أب، فكلا النوعين: العادي والخارق إنما يكون بالكلمة التكوينية النافذة، فلا راد لها ولا مبطل لأثرها في عالم الشهادة، فبها خلق آدم وحواء والمسيح عليهم السلام على جهة الإعجاز، فهم كلمات من الرب، جل وعلا، باعتبار صدورهم عنها لا باعتبار كونهم نفس الكلمات فإن المسبَّب ليس عين سببه بداهة، بل هو أثر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير