تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القدرة ابتداء، فما وجه الكمال في نفيه عن الرب، جل وعلا، إن لم يكن الرب، جل وعلا، قادرا عليه، ولكنه تنزه عنه لاتصافه بكمال ضده من العدل والحكمة، على ما اطرد من دلالة الصفات المنفية تنزيها على إثبات كمال ضدها ثناء، فمن يقدر على الشيء الممكن ولكنه يتنزه عنه أكمل حالا ممن لا يقدر على شيء غير مقدور عليه أصلا لكونه عدما!، فالصحيح أنه، عز وجل، قادر على الظلم فهو ممكن تتعلق به القدرة، ولكنه بمقتضى ما سمى به نفسه، واتصف به، من كمال مطلق، فهو الحكم العدل، فلا يظلم العباد أبدا فـ: (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)، و: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

يقول شارح الطحاوية رحمه الله:

"الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولا وسطا بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون منه ظلما وقبيحا، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه! وقياس له عليهم! هو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون. وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم! بل كل ما كان ممكنا فهو منه - لو فعله - عدل، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك. فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}، وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}، وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وذلك يدل على نقيض هذا القول.

ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا». فهذا دل على شيئين:

أحدهما: أنه حرم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك.

الثاني: أنه أخبر أنه حرمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك. فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه، لا ما هو ممتنع عليه. وأيضا: فإن قوله: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} - قد فسره السلف، بأن الظلم: أن توضع عليه سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسناته، كما قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وأيضا فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يأمن من ذلك، وإنما يأمن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: {فَلَا يَخَافُ} - علم أنه ممكن مقدور عليه. وكذا قوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} - لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، وإنما نفي ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم. فعلى قول هؤلاء ليس الله منزها عن شيء من الأفعال أصلا، ولا مقدسا عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن، ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له!! ". اهـ

"شرح الطحاوية"، ص442، 443.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير