تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهم، كما تقدم مرارا، قد وقعوا في التشبيه باستعمال قياس التمثيل على الخلق، فالأولون يجعلون فعله الرباني الكامل غير المخلوق فهو قائم بذاته القدسية وهي غير مخلوقة بداهة، يجعلونه من جنس فعل العبد الناقص المخلوق، فهو قائم بذاته الأرضية فنقصانه من نقصانها، كما أن كمال فعل الرب، جل وعلا، من كمال ذاته، فالأمر مطرد منعكس، فللذات الكاملة ما يليق بها من وصف الكمال، ولضدها من الذوات الناقصة ما يليق بها من الأفعال الناقصة، والآخرون يلتزمون بقياس التمثيل أيضا ما يشبهون به الرب، جل وعلا، بخلقه، فلا يتصور وقوع الظلم إلا من مأمور، والله، عز وجل، ليس بمأمور بداهة، وهذا صحيح، ولكنه لا يلزم من تنزهه عن الظلم أنه مأمور بذلك من غيره، بل هو، جل وعلا، الذي حرمه على نفسه، كما كتب على نفسه الرحمة، فذلك من فضله، عز وجل، على عباده، فلم يأمره غيره على جهة القهر ليصح لازمهم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وكذلك قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] نفى عندهم لما هو مستحيل فى نفسه لا حقيقة له، كجعل الجسم في مكانين فى آن واحد، وجعله موجوداً معدوماً في آن واحد، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الذي تنزه عنه، وكذلك قوله: "يَا عِبَادِي، إِنِّى حَرَّمْتُ الْظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّماً بَيْنَكُمْ، فَلا تَظَالَمُوا"، فالذي حرمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين وليس هناك ممكن يكون ظلماً فى نفسه وقد حرمه على نفسه، ومعلوم أَنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أَراده لم يقدر عليه. وأَيضاً فإِنه قال: "وَجَعَلْتُهُ مُحُرَّماً بَيْنَكُمْ" فالذي حرمه على نفسه هو الذي جعله محرماً بين عباده وهو الظلم المقدور الذي يستحق تاركه الحمد والثناءَ". اهـ

ص141، 142.

فأي مدح في نفي المعدوم، وهو منفي ابتداء إذ لا وجود له أصلا كما تقدم.

ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى سبب ظهور هذه المقالة، بقوله:

"والذي أوجب لهم هذا مناقضة القدرية المجوسية ورد أُصولهم وهدم قواعدهم، ولكن ردوا باطلاً بباطل وقابلوا بدعة ببدعة وسلطوا عليهم خصومهم بما التزموه من الباطل فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سجالاً مرة يغلبون ومرة يغلبون لم يستقر لهم نصرة ". اهـ

ص142.

فهي نقيض مقالة القدرية النفاة، فإنهم على الضد منهم فغلو في النفي، رد عليه أهل الجبر بالغلو في الإثبات فردوا الغلو بالغلو، والباطل بالباطل، وإنما يرد الغلو بالتوسط والاقتصاد في القول والفعل، والباطل بالحق، وهذا ما رد به أهل السنة كل المقالات الحادثة، فهم دوما وسط في كل مقالة دينية، فلا غلو ولا جفاء في مقالتهم، إذ هي على رسم السنة المحضة، والوسطية الحقة، بخلاف الطرفين المتناقضين، فأحدهما يزيد غلوا، والآخر ينقص جفاء، والحق وسط بين طرفين كما تقدم في أكثر من موضع.

فأثبت أهل السنة ما عند الفريقين من الحق، فأثبتوا إرادة العبد التي أثبتها القدرية النفاة، ولكنهم لم يجعلوها خالقة أو مستقلة بالتأثير في إيجاد المقدور، فلا يوجد الفعل إلا بها، بل هي سبب من جملة أسباب خلقها الله، عز وجل، ويسرها لإيقاع المقدور على ما قد علم أزلا وكتب في اللوح جزما لا يقبل التعليق أو التبديل، وأثبتوا إرادة الرب، جل وعلا، فهي المهيمنة على كل حركة في هذا الكون، فالإرادات كلها لها تبع، فلا تستقل إرادات المخلوقين بالفعل، بل تباشره، كما تقدم، بإذن الرب، جل وعلا، فلا تخرج الإرادات المخلوقة عن الإرادة الربانية العامة.

ثم ختم ابن القيم، رحمه الله، هذا الفصل ببيان وصف أهل السنة فهم حزب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفئته الذين: "لم يتحيزوا إِلى فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزموا غير ما جاءَ به، ولم يؤصلوا أَصلاً ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلهم ما دل عليه كتاب الله وكلام رسوله وشهدت به الفطر والعقول".

ص142.

فمقالتهم صحيحة النقل توافق العقل الصريح والفطرة السوية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير