تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بكمالهما فلا يماثله أو يشابهه أحد من خلقه فيهما، وذلك، كما تقدم مرارا، أصل مطرد في الصفات التي يشترك فيها الرب جل وعلا والعبد من جهة المعنى الكلي واللفظ الدال عليه، فالرحمة هي التالية للمغفرة، فتخلية بالمغفرة تذهب عين النجاسة وأثرها ثم تحلية بالرحمة فذلك مما يطيب به المحل.

فتكون المعصية من مراد الرب، جل وعلا، من هذا الوجه، فهي مراده الكوني وإن خالف مراده الشرعي، وبها يحصل من مراده الشرعي الذي يحبه ويرضاه ما يفوق مفسدتها الكونية العارضة، فذلك من عظيم حكمته، عز وجل، إذ جعل المكروه الكوني طريقا إلى المحبوب الشرعي، وإلى طرف من ذلك أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

"وأَما المعصية فإِذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإِنابة والذل والخضوع فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضاً وإِن كان سببها مسخوطاً مبغوضاً للرب تعالى، ولكنه يحب ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار، وهو سبحانه أَفرح بتوبة عبده من الرجل إِذا أضل راحلته بأَرض دوِّية مهلكة عليها طعامه وشرابه فأَيس منها ومن الحياة فنام ثم استيقظ فإِذا بها قد تعلق خطامها فى أَصل شجرة فجاءَ حتى أخذها، فالله أَفرح بتوبة العبد حين يتوب إِليه من هذا براحلته، فهذا الفرح العظيم الذى لا يشبهه شيء أَحب إِليه سبحانه من عدمه، وله أَسباب ولوازم لابد منها، وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإِن كان محبوباً له فهذا الفرح أَحب إليه بكثير ووجوده بدون لازمه ممتنع، فله من الحكمة في تقدير أَسبابه وموجباته حكمة بالغة ونعمة سابغة.

هذا بالإضافة إلى الرب جل جلاله، وأَما بالإِضافة إلى العبد فإِنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفاً على أَسباب لا تحصل بدونها، فتقدير الذنب عليه إِذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه وإِن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه والرب تعالى محمود على الأمرين، فإِن اتصل بالذنب الآثار المحبوبة للرب سبحانه من والتوبة والذل والإِنابة والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، وإِن لم يتصل به ذلك، فهذا لا يكون إِلا من خبث نفسه وشره وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة فى الملأ الأعلى ومعلوم وأن هذه النفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها ومساكنة من تليق مساكنته ومجاورة الأَرواح الخبيثة فى المحل الأَسفل، فإن هذه النفوس إِذا كانت مهيأَة لذلك فمن الحكمة أَن تستخرج منها الأسباب التي توصلها إلى ما هي مهيأَة له ولا يليق به سواه والرب تعالى محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والإنعام القابلين له فما كل أحد قابلاً لنعمته تعالى فحمده وحكمته تقتضي أن لا يودع نعمه وإِحسانه وكنوزه فى محل غير قابل لها". اهـ

ص142، 143.

فآلت المسألة إلى: رجحان المنفعة العظيمة التي تتولد من الذنب الطارئ على المفسدة العارضة منه، فإنه لا يخلو من وقوع أمر يكرهه الرب، جل وعلا، ويبغضه لمخالفته أمره الشرعي الحاكم، فذلك من لوازمه، ووجود الشيء دون وجود لوازمه أمر ممتنع، كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله، فذلك مما يناقض بدائه العقول، فهو من جملة العلوم الضرورية التي يلزم من نفيها إبطال قياس العقل الصريح، وإبطال وصف الحكمة، بتعطيل الأسباب، فلا يتولد من السبب مسبَّبه، على ما سن الرب، جل وعلا، من سنن الكون المتقنة، الجارية على مقتضى حكمته الباهرة، فلا مغفرة بلا ذنب ابتداء، ولازم الذنب وقوع ما يكره الرب، جل وعلا، شرعا، فيقع بإرادته الكونية فيصير ذريعة إلى وقوع محبوب أعظم من ندم وتوبة واستغفار، فذلك فعل العبد، ومغفرة وستر ورضوان فذلك، فعل الرب، جل وعلا، فبالذنب، وإن كان منهيا عنه بمقتضى الشرع، للذنب الواقع لا محالة بمقتضى الأمر الكوني، فالجهة، كما تقدم مرارا منفكة فإنه مراد من وجه غير مراد من آخر فمراد كونا غير مراد شرعا، لهذا الذنب أثر ظاهر في خضوع العبد إلى ربه، عز وجل، إن تاب وأناب، فيكون ذريعة إلى ظهور آثار وصف جمال الرب، جل وعلا، من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير