تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مغفرة ورحمة ...... إلخ، كما تقدم، وله، أيضا، أثر ظاهر في تمرد العبد وطغيانه، فيكون ذريعة إلى ظهور آثار وصف جلال الرب، جل وعلا، من إهلاك وانتقام، فلا بد أن يستخرج مكنون الصدر فيصير فعلا بعد أن كان قوة كامنة ليتعلق به الثواب إن كان محمودا أو العقاب إن كان مذموما.

وقول ابن القيم رحمه الله: "والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية" هو ما صاغه بعض أهل العلم في عبارة: "من كانت بدايته محرقة، كانت نهايته مشرقة"، فبداية مؤلمة ونهاية يلتذ بها العاقل حقا، فهو ينظر إلى المآل لا إلى الحال، فالحال شدة وكرب، والمآل: سعة وفرج، وذلك أمر مشاهد، فإن من عاش الأهوال في صباه وشبابه، إن ألهم الصبر والاحتساب، فلم يضجر ولم يجزع، فإن توالي الضربات عليه يشد ظهره، بخلاف الجازع الذي تنهد أركانه مع أول ضربة، والمثبت من ثبته الباري، عز وجل، فلا يستوي مع نقصان بدايته باعتبار الظاهر، لا يستوي ومن كانت بدايته منعمة مترفة فلم يباشر من الآلام ما يعمل عمل المصل الواقي من نوائب الزمان، فالشدائد تصنع، مع كره النفس لها وسؤال العاقل الرب جل وعلا النجاة منها ابتداء، تصنع الرجال، فلا يستوي مبتلى ومترف، فالغالب على أهل البلاء: الصلابة والصبر، والغالب على أهل الترف: الليونة بل الميوعة في أحايين كثيرة وسرعة الجزع و:

غير مأسوف على زمن ******* ينقضي بالهم والحزن

إنما يرجو الحياة فتى ******* عاش في أمن من المحن

وتأمل حال أهل البلاء في ديار كالبلقان وبيت المقدس وبلاد الأفغان والعراق، على وجه الخصوص، كيف صنعتهم المحن، وكيف استخرج الرب، جل وعلا، بنازلة كنازلة البلقان، جيلا من الشباب المجاهد الذي تحرر من أسر الشهوات التي تحكم أي مجتمع غربي، ولو كان مسلما، بل أي مجتمع يحيى على النمط الغربي، ولو كان شرقيا إسلاميا، فهو أسير الشهوات، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص لفظ: شرقي أو غربي، وإنما الشأن: إسلامي أو غير إسلامي، فتحرر أولئك الأفاضل، كما شاهدنا في كثير من الأفلام الوثائقية عن تلك النازلة المفجعة، فقضى منهم من قضى نحبه برسم الشهادة، ولا نزكيهم على ربهم جل وعلا، وثبت الآخرون في ميادين القتال مع ضعف الإمكانيات والتدريب أمام جيش صربيا المدرب المدجج بالسلاح، وقبل ذلك بعقيدة صليبية مقيتة تربى عليها جنده في كنائس البغي الصربية الأرثوذكسية، فضلا عن السمات الإجرامية الأصيلة في الشخصية الصربية فقد صادف إفراز الكنيسة وقيحها الخبيث محلا خبيثا يلائمها فازداد خبثا على خبث، ومع ذلك صمد أولئك الأفاضل، والتاريخ شاهد، لا سيما أيام الحرب الأخيرة للتفوق الكاسح للمسلمين على النصارى الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك حتى لجأ الغرب كعادته إلى الحيل السياسية ليلتف على تقدم المسلمين فأنهى الحرب باتفاقية، وإن شئت الدقة فقل بهدنة: "دايتون" المؤقتة كما ذكر ذلك الدكتور علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله، الزعيم والرئيس البوسنوي السابق.

وتأمل حال أهل الأرض المقدسة من لدن بدأ اليهود في الوفود عليها وما صاحب ذلك من ملاحم وانتفاضات واجه فيها أبناء الأرض المقدسة الاحتلال الإنجليزي واليهودي ببسالة منقطعة النظير شهد بها جنرالات الجيش الإنجليزي. فما نراه الآن من صمود أهل بيت المقدس وأهل غزة ليس وليد اللحظة فإن لله، عز وجل، سننا في كونه، فلا بد من تمحيص بالآلام ابتداء، ثم تربية يمتاز بها الشديد من اللين الذي نشأ في أحضان الترف، كما هو حال كثير من أبناء جيلنا في الدول المحيطة بالأرض المقدسة، والتي يعجب فيها المترفون من صمود أولئك، فأحدنا يجزع إذا انقطعت المياه أو التيار الكهربي لساعات لما نشأنا فيه من سعة وأمن، ولو نسبيا فهو على أقل الأحوال أفضل بكثير من الوضع الإنساني في الأرض المقدسة لا سيما مع التواطؤ والخيانة الجماعية، فلا يستوي مبتلى شدت الآلام ظهره، ومترف يسهل كسره وعصره.

وتأمل حال أبناء العراق من المقاومين، على ما وقع من بعض فصائل المقاومة من أخطاء شرعية جسيمة، إلا أنهم ظهروا مع ألم البداية الدامية لا سيما مع اشتداد وطأة فرق الموت الطائفية التي كانت رأس حربة احتلال آخر آت من الشرق الفارسي فضلا عن الاحتلال الغربي الرومي، فظهروا وكادوا يحققون النصر لولا ما وقع من الأخطاء التي أجلت النصر وإن كان آتيا إن شاء الله، ولا ينال ما عند الله، عز وجل، إلا بطاعته، فاقتضت حكمته أن يتأخر النصر لما خرج البعض عن ناموس الشريعة فوقع البغي والعدوان، ولو كان صاحبه مجتهدا، فلا ينصر الدين بنية صالحة إن فسد العمل، مع أن ذلك لا يخلو غالبا من نوع حظ نفس خفي لا يكاد يسلم منه أحد في زماننا مهما خلصت النوايا، فذلك خلاف السنة الشرعية والكونية، فإذا كان: لا تمكين إلا بابتلاء، فذلك الشق الكوني، فأيضا: لا تمكين إلا بمباشرة أسباب الشرع من توبة واستغفار وبذل للأسباب برسم التوكل ...... إلخ، فلا تمكين إلا بمباشرتها وحدها في رفع هذا البلاء، فذلك الشق الشرعي في هذه المعادلة التي أقام الرب، جل وعلا، عليها كونه، فلا تبديل لسنته، ولا مناص من السير عليها وإن طال السير، فإن الرب، جل وعلا، لا يعجل لعجلة أحد، ولا يخرج جيل قد تربى تربية شرعية سليمة يحقق الرب، جل وعلا، على يديه التمكين لدينه، لا يخرج جيل هذا وصفه في يوم وليلة، إلا إذا كان الأمر سحرا وشعوذة لا سننا ربانية محكمة.

وأما الأفغان فهم الأفغان!، وهم بمقتضى سنة الابتلاء الكونية في حالة حرب متواصلة من نحو ثلاثين سنة من بداية الاحتلال السوفييتي سنة 79 وإلى يوم الناس هذا، فعندهم من الشدة ما ولدتها تلك الابتلاءات المتواصلة فضلا عن طبيعة الأرض والمناخ والمعيشة القاسية التي تشكل عامل تربية طبيعي.

وكل ميسر لما خلق له، فهناك من يسر للقتل والحرب، وهناك من يسر للأكل والمنكح!، فلا تستوي النفوس في علومها وإراداتها وأعمالها.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير