تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فيهوديتهم السياسية من جنس ما نراه في نصرانية جنوب السودان فهي أيضا سياسية يراد بها تقسيم البلاد فأقطابها لا يقيمون للديانة وزنا وإنما محض غطاء شرعي لكيان مستقل، وهو ما يحاوله نصارى مصر فهويتهم الدينية ما هي إلا هوية سياسية مغلفة بالدين تحقيقا لمآرب شخصية لرءوس تستحق القطع، وقل مثل ذلك فيما يجري في بعض مناطق المغرب العربي لا سيما شرق الجزائر الذي يسعى المنصرون لنشر النصرانية فيه لتكون مقوما آخر من مقومات التباين بين شرق الجزائر وبقيته ليكون ذريعة إلى التقسيم، فالأمر، كما تقدم، ازدراء للأديان باتخاذها غطاء لمآرب سياسية رخيصة.

ولذلك كانت وصية تيودور هرتزل لهم وقد كان خبيرا بأحوالهم كانت وصيته هي التمسك بيهودية الدولة أيا كان مكانها في بيت المقدس أو في غيرها من مستعمرات بريطانيا آنذاك، فتلك اليهودية المنتحلة هي، كما تقدم، الرباط الجامع لهذه الأشتات ولو ظاهرا. وقد أشار عليهم بالعدول عن الأرض المقدسة إلى أرض أخرى طرحت كبدائل آنذاك، ولكن مشيئة الرب الحكيم، جل وعلا، اقتضت أن يفدوا على الأرض المقدسة تحديدا، وأن يكون مرادهم إقامة هيكلهم على أنقاض الأقصى تحديدا، لا مكنهم الله منه، لتظهر بذلك آثار سنة المدافعة بين أهل الأرض المقدسة وبينهم، فيستخرج الرب، جل وعلا، بها من العبوديات ما يجدد شباب هذا الدين في قلوب أتباعه فتلك من أعظم المنح التي تواكب تلك المحن العظيمة فهي مظنة مراجعة الدين وتجديد التعظيم له في قلوب نسيته أو كادت.

فيهود، وإن كانوا في الظاهر يقاتلون لإقامة دين، إلا أنهم في الحقيقة إنما يقاتلون لإقامة وطن يحيون فيه، فالدنيا أكبر همهم: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)، فنكرت: "حياة" تحقيرا أو لبيان النوع المطلق دون التطرق إلى الوصف المقيد، فأي حياة عزيزة كانت أو ذليلة هي غايتهم العظمى، وذلك، كما تقدم، مئنة من خسة تلك النفوس الوضيعة، وذلك، كما تقدم، مما يزيد المرارة في نفوس الموحدين الذين ابتلوا بتسلط أذل الخلق عليهم برسم الإذلال والإهانة.

وشتان من يقاتل ليحيى ولو ذليلا ومن يقاتل لينال الشهادة أو النصر، فإن مات فحميدا وإن عاش فكريما. وذلك ما يحير يهود في صراعهم مع أبناء الأرض المقدسة مع الفارق الهائل في التسليح، فلا يدركون ذلك المعنى، وإن علموه فتصور لا يستطيعون التحلي بمثله للفارق الهائل، أيضا، في التركيبة النفسية بين أبناء الأرض المقدسة وبينهم.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان طرف من حكم تمكين أهل الكفر فيستخرج بذلك من صور العبودية ما يفوق تلك المفسدة العارضة:

"والمقصود بالقصد الأول إِتمام نعمته تعالى على أَوليائه ورسله وخاصته فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أُوليائه غاية الحكمة، وكان في تمكين أَهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إِيصال إِلى الكمال الذى يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإِنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأَموالهم وقواهم له.

فإِن تمام العبودية لا يحصل إِلا بالمحبة الصادقة، وإِنما تكون المحبة صادقة إِذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة في مرضاة محبوبه والتقرب إِليه، فإِن بذل له روحه كان هذا أعلى درجات المحبة". اهـ

ص144.

فبذل الروح أقوى الأدلة والشواهد على صدق المحب، فإن ذلك من المواضع التي يمتاز البشر فيها فيظهر الصادق من الكاذب، وفي أوقات الشدة يظهر لكل منا من نفسه ما لم يكن يعلمه في زمن العافية، والمثبت من ثبته الرب جل وعلا.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ومن المعلوم أَن من لوازم ذلك التي لا يحصل إِلا بها أَو يخلق ذواتاً وأَسباباً وأَعمالاً وأَخلاقاً وطبائع تقتضى معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها فكل أَحد يحب الإِحسان والراحة والدعة واللذة، ويجب من يوصل إِليه ذلك ويحصله له، ولكن الشأْن فى أَمر وراءَ هذا وهو محبته سبحانه ومحبة ما يحبه مما هو أَكره شيء إِلى النفوس وأَشق شيء عليها مما لا يلائمها، فعند حصول أَسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته ويحب ما يحب ممن يحبه لأَجل مخلوقاته فقط من المأْكل والمشرب والمنكح والرياسة، فإِن أُعطي منها رضي وإِن منعها سخط وعتب على ربه وربما شكاه وربما ترك عبادته". اهـ

ص144.

فحصول الابتلاء مما يظهر حقيقة المحبة، وهل يحب العبد الرب، تبارك وتعالى، لذاته، أو يحبه لما يصله منه من النعم الكونية، وإن كان كلا الأمرين مرادا شرعيا، ولكن الأول أشرف، والاقتصار على الثاني علامة نقص، فإن الرب، جل وعلا، كما تقدم، يحب لأوصاف كماله الذاتية، ويحب لأوصافه الفعلية التي بها تظهر آثار رحماته في خلقه بما يجريه عليهم من النعم المتكاثرة فلا يحصيها عدد، ولا يقدر قدرها عقل.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير