تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 03 - 2010, 08:05 ص]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فلولا خلق الأضداد وتسليط أَعدائه وامتحان أَوليائه بهم لم يستخرج خالص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له، ولا عبودية مفارقة الناس أحوج ما يكون إليهم عنده لأجله في مرضاته، ولا يتحيز إليهم، وهو يرى محاب نفسه وملاذها بأيديهم فيرضى بمفارقتهم، ومشاققتهم، وإيثار موالاة الحق عليهم، فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار". اهـ

ص144.

فتحصل بخلق الأضداد من المكاره الشرعية، فخلقت بالإرادة الكونية وإن لم توافق الإرادة الشرعية، تحقق بخلقها: من المحاب والمراضي من أجناس العبوديات الباطنة والظاهرة، ما هو أعظم من مفسدتها، فلا يقعد أهل الحق عن نصرة الحق، فليسوا على رسم الجبر الباطل بإظهار الخضوع والخنوع لأعداء الرسالات، برسم التسليم للقضاء والقدر، فليس ذلك من الرضا في شيء، بل الرضا إنما يكون ببذل السبب المشروع، سواء أكان مشروعا على جهة التعبد كالدعاء لرفع النازلة الكونية، أم كان مشروعا على جهة بذل السبب المقدور من أمور الدنيا كإعداد عدة لقتال عدو أو لنصرة مظلوم مبتلى، لا لحصاره والتضييق عليه كما يقع في زماننا!، فالرضا إنما يكون بعد ذلك لا قبله قعودا وتكاسلا عن تغيير المنكر قدر الاستطاعة، فالرضا والتسليم بالكفر والعصيان بزعم الرضا بما رضيه الرب، جل وعلا، إذ شاء وقوعه، ولو لم يرضه ما شاءه، ذلك الرضا المذموم سبب رئيس في حل عرى الولاء والبراء في القلب، وإطفاء جذوة الغيرة على محارم الرب، جل وعلا، كما وقع لكثير من أهل زماننا، وإن لم يظهروا الجبر الصريح، فقد استجابوا لتخذيل المخذلين، وتخدير المخدرين من أصحاب الطرق والمسالك الباطلة بزعم الوصول إلى الرب، جل وعلا، من غير طريق النبوة، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على طرائقهم الحادثة من الجبر والشطح والصرع في مجالس الذكر بزعم الوصول، وذلك وصول، إن صدقوا، إلى مراتب دنية لا تليق بآحاد السالكين إلى الله، عز وجل، فضلا عن مقدم المتقين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وإن لم ينتسب كثير من أهل زماننا إلى تلك الطرق إلا أنها نجحت بامتياز طيلة القرون الماضية في إعادة تشكيل المزاج العام للجماعة المسلمة فأثرت فيه بالسلب أيما تأثير فنال كلا من ذلك ما ناله وإن لم يكن من أتباع طريقة بعينها، فضلا عن تخذيل المخذلين من المترسمين برسم العلم، فيخدع بظاهرهم كثير من المسلمين، ومنهم أهل علم وفضل ابتلى الله، عز وجل، الخلق بإجراء غير الحق على ألسنتهم، ليرى أيتبع الحق أم تتبع أقوال الرجال التي لا عصمة لقائليها، مهما بلغت ديانتهم وورعهم، وسبب هذا الزلل هو التسوية بين المحبة والمشيئة، فجعلوهما سواء، ولا يستويان، فليس كل ما شاء الرب، جل وعلا، يحبه، وليس كل ما يحبه يشاؤه، فـ: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ)، فلو شاء الانتصار منهم لانتصر، ولكنه لم يشأ، مع كون ذلك له مقدورا محبوبا، وإنما لم يشأ وقوعه، مع كون ظهور الكافرين على المؤمنين مبغضا له مذموما، لئلا تفوت المصلحة الأعظم بفوات وقوعه، فبه، تستخرج العبوديات الجليلة التي سبقت الإشارة إليها، فبضدها تتميز الأشياء، فيظهر كمال ربوبيته في خلق الأضداد، فتلك في حد ذاتها غاية عظيمة، ولو لم يكن ثم مصلحة في خلق الشر إلا هي لكفت، فكيف وقد انضاف إليها من الحكم والغايات العظيمة ما ظهر أثره ولا زال يظهر في عالم الشهادة من صور تخليص النوايا وتصحيح الأعمال لتكون على رسم الشريعة ظاهرا وباطنا، ولا يكون ذلك، كما تقدم مرارا، إلا باقتفاء أثر النبوة، وهل كان جهاد ورباط الصابرين في الأرض المقدسة من الرجال بل والنساء اللاتي يرابطن الآن في البيت المقدس لصد غارة قطعان يهود، مع قعود بقية رجال المسلمين برسم الاضطرار أحيانا ورسم الاختيار أحايين كثيرة، فلم يعد الأمر يعني كثيرا من ذكور المسلمين في زماننا! وإن كان فيهم رجال حيل بينهم وبين ما يشتهون من الانتصار من شذاذ الآفاق من يهود، هل كان ذلك سيقع لولا مشيئة الرب، جل وعلا، وجود خلق من أحقر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير