تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وأَيضاً فلولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر وجهاد النفس ومنعها من حظوظها وشهواتها محبة لله وإِيثاراً لمرضاته وطلباً للزلفى لديه والقرب منه". اهـ

ص144.

فذلك من قبيل التمثيل للأضداد المخلوقة وما تولد من ذلك من المصالح بجريان سنة التدافع بينها، فتلك من أعظم وأعسر صور جهاد النفس، فالطباع الجبلية تستعصي في الغالب على التغيير، إلا أن يشاء الرب القدير، جل وعلا، وفي أحيان كثيرة يتغلب الطبع على التطبع، فإن نجح الإنسان في إلجام الشهوة والغضب، فإنه قل من يسلم من الزلل، فيجاهد، وينتصر حينا، فيظهر أثر وصف الرب الجليل، تبارك وتعالى، الذي أمده بأسباب الغلب، فأقدره بقدرته ومشيئته على صرع عدوه الباطن من نازع النفس الأمارة، وعدوه الظاهر من هاتف الشر، فألجأهم إلى الفرار، ويغلب تارة، ليعلم ذله وضعفه وافتقاره إلى عون الرب، جل وعلا، فيمتاز وصف الربوبية الكاملة من وصف العبودية الناقصة، فالأول غني لذاته على جهة الإطلاق، والثاني فقير لذاته على جهة الإطلاق فيفتقر إلى مدد الرب، جل وعلا، من الأسباب التي بها يصلح دينه ودنياه، فبأسباب الوحي يصلح أمر الدين، وبأسباب الكون يصلح أمر الدنيا، فتلك مصلحة عظمى تظهر فيها آثار حكمة الرب، جل وعلا، أن وكل العبد حينا إلى نفسه ليخوض النزال بقواه، فيظهر له ضعفه الجبلي، فلا يقوى على عدوه الداخلي أو الخارجي إلا أن يمده الرب، جل وعلا، بجند من عنده، فيمده بجند الصبر، وجند الكظم للغيظ، وجند العفة إن بدت له شهوة محرمة ...... إلخ، وما يعلم جنود ربك إلا هو، بل ويمده بروح منه على جهة التأييد، وبملك كريم ينفث في روعه هاتف الخير فتقوى في نفسه نوازع الإيمان، فتفر عساكر الشيطان والنفس الأمارة من لقاء عساكر الملك والنفس اللوامة، فكل قد ارتدى لأمته، وأعد العدة لخوض النزال، فخاضته النفس المطمئنة بلأمة الإيمان، وخاضته النفس الأمارة بلأمة الوعود الكاذبة والأماني الخادعة فـ: "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا"، فلما التقت الفئتان سواء أكان اللقاء في الخارج في ساحات القتال الظاهر، أم في الداخل في ساحة القلب: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، فيفر العدو في الخارج من تكبير جند الحق، وذلك أمر قد جربه أعداء الديانة ولا زالوا، إلى يوم الناس هذا، وقصصهم في ذلك معروف متداول، فلا تفزعهم إلا صيحات التكبير إذا انطلقت من حناجر الموحدين، ويفر الشيطان، وتنكسر عساكر النفس الأمارة بالتكبير والاستعاذة فإن ذلك يردها ويشفي وساوسها.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأَيضاً فلولا ذلك لم تكن هذه النشأَة الإِنسانية إِنسانية، بل كانت ملكية، فإِن آلله سبحانه خلق خلقه أَطواراً:

فخلق الملائكة عقولاً لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضى شيئاً من الآثار والطبائع المذمومة، وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها، وخلق الثقلين- الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها. وهؤلاءِ هم أَهل الامتحان والابتلاءِ، وهم المعرضون للثواب والعقاب ولو شاءَ سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة وخلق واحد ولم يفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية، ولو كان الخلق كله طبيعة واحدة ونمطاً واحداً لوجد الملحد مقالاً وقال: هذا مقتضى الطبيعة، ولو كان فاعلاً بالاختيار لتنوعت أَفعاله ومفعولاته ولفعل الشيء وضده والشيء وخلافه". اهـ

ص144، 145.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير