تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فاقتضت سنة الابتلاء التي تتمايز بها النفوس: فنفوس تقية أبية، وأخرى فاجرة دنية، ولم يكن ذلك ليقع لو كانت خلقة الإنسان ملكية لا تعرف نزوعا إلى شهوة، فيلجمها صاحب الديانة بلجام الشرع، وينفلت زمامها من الفاجر، فيكدح في تحصيل شهواتها، وهي مع ذلك لا ترضى ولا تقنع، بل تزداد نهما وشرها إلى ما يمرضها بل يقتلها، فلو كان لها بقية عقل سالم من آفات الهوى المتبع، لنأت بنفسها عن أسباب هلاكها كما ينأى العاقل عن السم الذي يميت بدنه، فما باله يحترز لبدنه ما لا يحترز لروحه، وهي أشرف مادة منه، وأولى بالعناية منه، فيتعاطى ما يؤذيها من الشبهات الردية والشهوات الدنية التي تصيره في آخر أمره: بهيمة في مسالخ البشر، بل البهيمة، كما تقدم مرارا، أحسن حالا منه، فإنها قد عرفت ربها، عز وجل، فسبحت بحمده ثناء وتنزيها، وهو لم يعرفه بعد، فقد استولى جند الشيطان على قلبه وبدنه، فأسره في قيد التصورات والإرادات الفاسدة وما يتولد منها من المعاصي والمنكرات الظاهرة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وكذلك لولا شهود هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أَيضاً مقالاً وقال: لو كان لهذا العالم خالقاً مختاراً لوجدت فيه الحوادث على حسب إرادته واختياره، كما روى الحسن أَو غيره قال: كان أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: جلَّ ربنا القديم، إنه لو لم يتغير هذا الخلق لقال الشاك فى الله إنه لو كان لهذا العالم خالق لحادثه بينا هو ليل إِذ جاءَ نهار وبينا هو نهار إِذ جاءَ ليل، بينا هو صحو إِذ جاءَ غيم وبينا هو غيم إِذ جاءَ صحو، ونحو هذا من الكلام، ولهذا يستدل سبحانه فى كتابه بالحوادث تارة وباختلافها تارة، إِذ هذا وهذا يستلزم ربوبيته وقدرته واختياره ووقوع الكائنات على وفق مشيئته، فتنوع أَفعاله ومفعولاته من أَعظم الأَدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه". اهـ

ص145.

فإن حدوث الكائنات في عالم الشهادة باستمرار وتجدد مئنة من وجود قادر مريد مختار يحدث ما شاء من الأفعال، فهو: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، فصيغة المبالغة مئنة من دوام الفعل، فهي محولة عن صيغة فاعل لقصد المبالغة والتكثير، كما ذكر ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "شرح شذور الذهب"، وصيغة فاعل بدورها نائبة عن المضارع، والمضارع، كما قد علم من دلالته الوضعية في لسان العرب، يدل على وقوع الفعل في الحاضر والمستقبل، فهو، جل وعلا الفعال بمشيئته العامة النافذة، لما يريد، فجاءت الصلة: "يريد" على حد المضارعة على ما تقدم من دوام الحدوث، فإحداث الرب، جل وعلا، ما شاء في كونه، بكلماته الكونيات النافذة، فهي علة صدور الكائنات، كما تقدم مرارا، ذلك الإحداث بالعلم والحكمة والقدرة والإرادة الاختيارية، فهو، جل وعلا، فاعل باختيار، لا باضطرار، كما قال الفلاسفة، نفاة صفات الرب، جل وعلا، ذلك الإحداث: رد لمقال كل ملحد أو زنديق من شيوعيي الزمن الماضي من الدهريين الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)، ودهريي هذا الزمان من الشيوعيين، الذين ردوا هذا الكون المحكم الجاري على ذلك السنن الرباني المتقن إلى محض الصدفة في الوجود والآلية في السير، فلا قوة عليا موجدة له، مدبرة لأمره، ولو كان كما ادعوا لسار رتيبا، فجاء تنوع الأفعال والمفعولات إبطالا لمقالتهم، فهي مئنة من وجود تلك القوة العليا: القوة الربانية التي أنكروها، ومن كان ذلك وصفه من كمال التصرف بالإيجاد والتسيير لخلقه بقدر سابق وقضاء حاضر يتجدد بتجدد مشيئته، جل وعلا، وقوع المقدور الأزلي، فيقع كما قد قدر بلا زيادة أو نقصان، على وجه يظهر به كمال علمه وحكمته، فلا ينازعه مخلوق في أوصاف كماله، فهو المنفرد بها، من كان ذلك وصفه فهو المستحق لكمال التأله بداهة، فتوحيد الربوبية علة توحيد الألوهية فمتى أقر العبد بانفراد الرب، جل وعلا، بأوصاف الربوبية لزمه إفراده بتوحيد الألوهية، وإلا وقع في التناقض العقلي بإثبات العلة ونفي معلولها.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 04 - 2010, 08:16 ص]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير