تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عليها، فمن لم يقدر على الإيمان إلا برب يراه، ولو في صورة منتحلة أو حتى حقيقية للمسيح عليه السلام تعلق على جدران الكنائس، من كان ذلك حاله كيف لا يكون قبوله لأي فكر مادي قبولا يسيرا، لا سيما مع ضغط الكنيسة المرهق وإرهابها الفكري والبدني الذي بغض الدين إلى أتباعه.

فبإزاء الغلو في تقديس الكهنوت إلى حد التصديق بالخرافة، كان الغلو في تعظيم "الأنا" في أوروبا التي عبدت نفسها بعد أن كانت تعبد الكنيسة، فمنطلقها، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، من: "الأنا" فالفرد هو محور هذا الكون بخلاف دين المرسلين عليهم السلام، دين الإسلام، الذي ينطلق فيه الإنسان من قاعدة شرعية راسخة ترد الأمر إلى خالق الكون، جل وعلا، فتتلاشى: "الأنا" بتلاشي حظوظ النفس أمام حكم الرب جل وعلا.

والشاهد أن آثار صفات الرب، جل وعلا، هي ما نعاينه من الحوادث الكونية التي تتجدد بتجدد مشيئة الرب، جل وعلا، إيقاعها، فصفاته الفاعلة: حادثة الأفراد باعتبار تعلقها بالمشيئة، قديمة الأنواع باعتبار تعلقها بالذات القدسية، فأنواعها قديمة قد اتصف الرب، جل وعلا، بها أزلا، فلما شاء ظهور آثارها في عالم الشهادة أحدث من آحادها ما ظهرت به هذه الآثار، فشاء خلق فلان من الناس فتعلق ذلك بمشيئته، فكان فلان بكلمته التكوينية النافذة بعد أن لم يكن، وشاء هلاك فلان فتعلق ذلك، أيضا، بمشيئته، فهلك فلان بكلمة تكوينية أخرى، فلكل فعل كلمة تكوينية تخصه، كما أن لكل فعل آثارا في الكون تدل عليه.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأَيضاً فإِن تنويع أَسباب الحمد أَمر مطلوب للرب تعالى محبوب له، فكما تنوعت أَسباب الحمد تنوَّع الحمد بتنوُّعها وكثر بكثرتها ومعلوم أَنه سبحانه محمود على انتقامه من أَهل الإِجرام والإِساءة، كما هو محمود على إِكرامه لأَهل العدل والإِحسان، فهو محمول على هذا وعلى هذا.

مع ما يتبع ذلك من حمده على حلمه وعفوه ومغفرته وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها والعفو عن كثير من جنايات العبيد فنبههم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذى عفا عنه، وأَنه لو عاجلهم بعقوبته وأَخذهم بحقه لقضى إِليهم أَجلهم ولما ترك على ظهرها من دابة، ولكنه سبقت رحمته غضبه وعفوه انتقامه ومغفرته عقابه، فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإِحسانه، ولا سبيل إِلى تعطيل أَسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيب هذا الموضع حق التدبر، وليعطه حقه يطلعه على أَبواب عظيمة من أَسرار القدر، ويهبط به على رياض منه معشبة وحدائق مونقة. والله الموفق الهادي للصواب". اهـ

ص146.

فالحمد، كما تقدم، يكون على كل أفعال الرب، جل وعلا، جمالا وجلالا، فتنوع صفاته إلى: صفات جلال وصفات جمال يلزم منه تنوع آثارها فآثار صفات الجمال هي سائر الرحمات الكونية والشرعية التي تستوجب الحمد والشكر له تبارك وتعالى، وآثار صفات الجلال هي صور انتقامه وبطشه بأعداء الرسل، عليهم السلام، فلما كان، تبارك وتعالى، أهلا لسائر أجناس المحامد، حال العافية وحال البلاء، حال النعمة وحال النقمة، لزم من ذلك تنوع وجوه القدر الكوني بوقوع المتضادات، ليظهر أثر أوصاف جلاله ومقابلها من أوصاف جماله، فإن لم يكن ثم أعداء للرسل عليهم السلام: كيف يظهر وصف جلاله بإهلاكهم؟!، وتلك من أجل حكم خلق الشر، فخلقه في حد ذاته مئنة من كمال قدرة الرب، جل وعلا، فهو خالق الشيء وضده، ومئنة من حكمته، بوقوع سنة التدافع بين الخير والشر فينتظم بذلك أمر الكون على هذا النحو المتقن، ومئنة من علمه المحيط، فشاء وقوع الشر بقدره الكوني النافذ لما علمه بعلمه الأزلي الأول من الخير الآجل الذي لا يقع إلا بوقوع الشر العارض، فذلك من جملة السنن الكونية، لما جبلت عليه الكائنات من خير أو شر ذاتي فيها، فلا يتصور خلوها من وصفها الذاتي الملازم لها فذلك مخرج لها عن طبيعتها التي خلقها الله، عز وجل، عليها، فلا يظهر كمال الخير إلا بظهور ضده من الشر، ولا يمكن أن يظهر إلا بذلك، وإلا بطلت السنة الكونية، بنزع القوى المؤثرة بالخير أو الشر من الكائنات، فتصير عديمة الوصف، فلا ينبني عليها حكم، فالحكم بالمدح أو الذم إنما يكون تبعا للوصف، فيدور معه وجودا وعدما، فيدور حكم المدح مع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير