تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، فالرسل عليهم السلام لم يكونوا على طريقة الطواغيت، فلم يبلغوا إلا الرسالات، بلا زيادة أو نقصان، ولم يروموا إلا سياسة الخلق بأحكام الوحي لا بأحكام الهوى كما كان أصحاب الكهنوت يرومون، وكما يروم العلمانيون في زماننا فيريدون إخراج الناس من عبودية رب العباد، جل وعلا، إلى عبودية العباد برد الأمر إلى العقول والأهواء المضطربة، فكل عقل بما لديه فرح، وبقياسه مطمئن وإن خالف الوحي المنزل، ولا يفصل النزاع بين تلك الأهواء المتلاطمة إلا كتاب منزل من السماء، فمنزله، جل وعلا، قد بلغ الغاية من العلم والحكمة، فهو العليم بحال عباده الحكيم فلا يشرع من الدين إلا ما بلائم أحوالهم، فـ: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، وإن بدا لهم خلاف ذلك لقصور نظرهم فلا يدرك المآل إدراكه للحال، فيروم تحصيل المصلحة العاجلة الصغرى ولو فوت على نفسه بذلك تحصيل المصلحة الآجلة العظمى فـ: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ)، فالنبوات شرط صحة في النجاة، فلا تكون نجاة إلا باقتفاء آثارها تصديقا وامتثالا.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ثم أَخبر أَنه سبحانه قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاءَ ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكن حكمته تأْبى ذلك وعدله يأْبى تعذيب أَحد وأَخذه بلا حجة، فأَقام الحجة وصرّفَ الآيات وضرب الأمثال وَنوَّع الأدلة". اهـ

ص146، 147.

فصرف الرب، جل وعلا، الآيات ليقيم الحجج ويقطع الأعذار التي يتعلل بها منكرو الرسالات، فـ: (مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فذلك عموم قد خصص عموم قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، فمن لم يبلغه النذير على وجه تحصل به إقامة الحجة الرسالية، فتستوفى شروطها وتنتفي موانعها وترتفع الشبهات عنها، من لم يبلغه النذير على هذا الوجه فهو معذور بشرط أن يكون طالبا للهدى مسترشدا في سؤاله لا معاندا، فمن بلغه ذكر الرسالة الخاتمة، فأعرض عن النظر في حججها وبراهينها النقلية والعقلية، فليس بمعذور إذ قد بلغه ذكر من يزعم أنه نبي يوحى إليه، وجنس النبوات في البشر، لا سيما أهل الكتاب، قد ذاع وانتشر، فينظر في أدلة تلك الدعوى وحال صاحبها، فيبعد، كما تقدم في مواضع سابقة، أن يمكن الرب، جل وعلا، لكاذب مفتر، فالكذاب في أمر الدنيا مآله إلى افتضاح وإن راج كذبه حينا، فكيف بالكذاب في أمر الدين بادعاء أعظم المناصب البشرية: منصب البلاغ عن رب البرية، جل وعلا، كيف يظهر أمره ويرتفع ذكره، وينصر على عدوه، وتسلم رسالته من القوادح، فغاية أعدائها إثارة الشبهات الواهية بتتبع المتشابه والعدول عن المحكم، كيف يكون كل ذلك وهو في نفس الأمر كاذب مفتر؟!، فذلك، كما تقدم في مواضع سابقة سوء ظن عظيم بالرب الجليل الكريم تبارك وتعالى.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ولو كان الخلق كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأُمور ولا تنوعت هذه الأَدلة والأَمثال، ولا ظهرت عزته سبحانه فى انتقامه من أَعدائه ونصر أَوليائه عليهم، ولا حججه التي أَقامها على صدق أَنبيائه ورسله ولا كان للناس آية في فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله، وأُخرى كافرة يرونهم مثليهم رأْي العين، ولا كان للخلق آية باقية ما بقيت الدنيا في شأْن موسى وقومه وفرعون وقومه وفلق البحر لهم ودخولهم جميعاً فيه ثم إِنجاءَ موسى وقومه ولم يغرق أَحد منهم وأَغرق فرعون وقومه لم ينج منهم أَحد، فهذا التعرف إِلى عباده وهذه الآيات وهذه العزة والحكمة لا سبيل إِلى تعطيلها ألبتة ولا توجد بدون لوازمها". اهـ

ص147.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير