تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم جاء الثناء بالتبارك: "تَبَاركَ اللهُ رَبُّ العالَمِينَ" لعموم الحمد، كما تقدم، فله كمال الذات والصفات والأفعال، فذلك الملزوم، ولازمه: كمال الحمد ثناء وعبودية، فتبارك على جهة الانفراد بكمال الحمد الذاتي والفعلي، فذلك مما اختص به نفسه، جل وعلا، فلا يشركه فيه غيره من المحمودين وإن شرفت ذواتهم وعظمت أوصافهم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فالحمد أَوسع الصفات وأَعم المدائح والطرق إِلى العلم به فى غاية الكثرة، والسبيل إِلى اعتباره فى ذرّات العالم وجزئياته وتفاصيل الأَمر والنهى واسعة جداً، لأَن جميع أَسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد وأَفعاله حمد، وأَحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أَعدائه حمد، وفضله فى إحسانه إلى أَوليائه حمد والخلق والأَمر إِنما قام بحمده ووجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هى حمده فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده فى الموجودات وظهور آثاره فيه أَمر مشهود بالأَبصار والبصائر: فمن الطرق الدالة على شمول معنى الْحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفة أَسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأَن للعالم إِلهاً حياً جامعاً لكل صفة كمال واسم حسن وثناءٍ جميل وفعل كريم". اهـ

ص149.

فالحمد أوسع الصفات من جهة عمومه لكل أفعال الرب، جل وعلا، جمالا وجلالا، فيحمد في السراء على أثر صفات جماله، ويحمد في الضراء على أثر صفات جلاله، فله الحمد في كل الأحوال والأوقات، فهو المحمود بوصف ذاته وصفاته وافعاله، أزلا وأبدا، فلم يكن معطلا أبدا عن وصف الكمال، حتى اكتسبه، بل أفعاله المتعلقة بمشيئته النافذة، هي أثر صفاته الفاعلة التي اتصف بها أزلا، فلا يلزم، كما تقدم مرارا، من اتصافه بآحاد الأفعال الحادثة بمشيئته إيقاعَها على الوجه اللائق بجلاله، لا يلزم من ذلك طروء كمال لم يكن متصفا به، فيحمد على وجه الاستئناف بكمال لم يكن به متصفا، بل ذلك الفعل هو أثر كمال سابق له قد اتصف به، جل وعلا، أزلا، فهو محمود لاتصافه به أزلا، فذلك من الحمد الأزلي، محمود إذا شاء وقوعه أثره في عالم الشهادة من فعله الذي بلغ الغاية في القدرة والحكمة، فذلك من حمده المتجدد بتجدد آثار أوصاف كماله في كونه، فليس حمدا مستأنفا على شيء لم يكن متصفا به، كما تقدم، بل هو من الحمد المتجدد المؤكد للحمد الأزلي المتقرر، فله الحمد أزلا وأبدا، أولا وآخرا، أكرم أو أهان، أعطى أو منع، ابتلى أو عافى، فحمده قد عم، كما تقدم، كل الأحوال وكل الأوقات، فلا زال ولا يزال وسيزال الحميد بأوصاف الجمال، المجيد بأوصاف الجلال، فالكون بنفاذ سننه، ودقة نظامه، وإتقان بنيانه دال على وحدانية خالقه ومدبره، فلا ند له ولا نظير، وأحديته فهو الموصوف بوصف الكمال فآثار قدرته وحكمته ظاهرة في كل الأعيان والأحداث الكائنة في عالم الشهادة فـ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

يقول ابن القيم، رحمه الله، في بيان واف لهذا المعنى الجليل:

"وأَنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة والعلم المحيط والسمع الذى وسع الأَصوات والبصر الذى أَحاط بجميع المبصرات والرحمة التى وسعت جميع المخلوقات والملك الأَعلى الذى لا يخرج عنه ذرة من الذرات والغنى التام المطلق من جميع الجهات والحكمة البالغة المشهود آثارها فى الكائنات والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات والكلمات التامات النافذات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات، واحد لا شريك له فى ربوبيته ولا فى إلهيته، ولا شبيه له فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أَفعاله، وليس له من يشركه فى ذرة من ذرات ملكه، أَو يخلفه فى تدبير خلقه، أَو يحجبه عن داعيه أَو مؤمليه أو سائليه، أَو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أَو فرية أَو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود وفسد العالم بأَسره: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا}. فلو كان معه آلهة أُخرى كما يقول أَعداؤه المبطلون لوقع من النقص فى التدبير وفساد الأَمر كله ما لا يثبت معه حالٍ، ولا يصلح عليه وجود". اهـ

ص149.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير