تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(وذلك قول نفاة الحكمة الربانية من أهل الجبر الذين غلوا في إثبات القدر، فأثبتوا القدرة ونفوا الحكمة)، بل تعذيبه لهم على مخالفته هو من هذا الجنس إذ لا قدرة لهم ألبتة على فعل ما أُمروا به ولا ترك ما نهوا عنه.

فله الحمد والمنة والثناءُ الحسن الجميل إِذ لم يجعلنا عبيداً لمن هذا شأْنه فنكون مضيعين، ليس لنا رب نقصده، ولا صمد نتوجه إِليه ونعبده، ولا إِله نعوّل عليه، ولا رب نرجع إليه بل قلوبنا تنادي في طرق الحيرة: من دلنا وجمع علينا رباً ضائعاً لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محاذ له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا نزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا كلَّم أَحداً ولا يكلمه أَحد". اهـ

بتصرف من: ص150، 151.

فذلك إطناب من ابن القيم، رحمه الله، في بيان مقالة نفاة الصفات، فقد فصلوا في النفي حتى صيروا الرب، جل وعلا، وهو المتصف بكل كمال مطلق، عدما لا حقيقة له، فهو محض فرض ممتنع، على طريقة نفاة الضدين، أو القائلين بالمطلق بشرط الإطلاق من كل وجه، كما هي مقالة الفلاسفة فهم من الغلاة في نفي الصفات الإلهية، فهذا لا يكون خارج الذهن، فالأعيان لا توجد خارجه إلا مقيدة بأوصاف يقع بها التمايز، فيمتاز المخلوق بأوصافه التي تلائم ذاته، ويمتاز الخالق، عز وجل، بأوصافه التي تقوم بذاته القدسية، فكمالها المطلق فرع عن كمال ذاته المطلق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فمن أطنب في النفي على هذا الوجه فمآل أمره: إنكار وجود الرب، جل وعلا، أو إثبات وجود ناقص لم ينزل به وحي، ولم ينطق به نبي، فطريقة الأنبياء عليهم السلام: الإثبات المفصل لأوصاف الكمال، مع قطع الطمع في إدراك كنهها، فلا يعلم ذلك إلا الرب، جل وعلا، فـ: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)، فلا يحيطون بشيء من علم ذاته أو صفاته إلا بما شاء، على القول برجوع الضمير على ذات الرب، جل وعلا، الموصوفة بالكمال المطلق، وذلك من الخصوص، أو: لا يحيطون بشيء من علمه وذلك أعم من علم الأسماء والصفات فيشمل كل المغيبات والمشهودات، فلا يحيطون بشيء من علمها إلا بما شاء، وذلك العموم، وعلى كلا الوجهين فقد شاء، تبارك وتعالى، ألا نعلم إلا معاني ما قد بلغته الرسل وجاءت به الكتب من أسمائه وصفاته، فالكيف عن عقولنا محجوب فهو من الغيب الذي استأثر بعلمه الرب، جل وعلا، ليقع بذلك الابتلاء بتصديق الخبر، فضلا عن تعظيم الرب، جل وعلا، فهو أعظم الغيوب، وللغائب، وإن كان مخلوقا هيبة في القلوب، فكيف بالخالق، عز وجل، بل إن رؤية أهل دار السلام له، جل وعلا، رؤية تنعم لا إحاطة، فجل، تبارك وتعالى، أن يحيط به مخلوق، فالهيبة والإجلال كائنان في كل حال، سواء أكان ذلك في دار الابتلاء بالاحتجاب، أم في دار النعيم بالرؤية.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان طريقة النفاة خصوصا وأهل الإحداث في الملل والنحل عموما من من خالفهم:

"ولا ينبغي لأحد أن يذكر صفاته ولا يعرفه بها بل يذكرها بلسانه فلا يتكلم بها وبقلبه فلا يعقلها وينبغي له أَن يعاقب بالقتل أَو بالضرب والحبس من ذكرها أَو أَخبر عنه بها أَو أَثبتها له. أَو نسبها إلِيه أَوْ عرفه بها، بل التوحيد الصرف جحدها وتعطيله عنها ونفي قيامها به واتصافه وما لم تدركه عقولنا من ذلك فالواجب نفيه وجحده وتكفير من أثبته واستحلال دمه وماله أو تبديعه وتضليله وتفسيقه، وكلما كان النفي أَبلغ كان التوحيد أتم، فليس كذا وليس كذا أَبلغُ في التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذا، (وهذا قول النفاة كما تقدم فإطنابهم في النفي بخلاف إطناب الرسل عليهم السلام فهو إطناب في إثبات وصف الكمال للرب، جل وعلا، كما نزل به الروح الأمين عليه السلام فمرد هذا الباب إلى الوحي) ". اهـ

بتصرف من: ص151.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير