تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الإحاطة، وزيد في التوكيد بورود: "من" فهي تفيد التنصيص على العموم، فذلك عموم بعد عموم، وهو آكد في تقرير معنى المراقبة للرب، جل وعلا، فلا يلفظ اللسان إلا بما يرضي الرب، جل وعلا، فالآيات، وإن كانت أخبار عن وصف كماله: سمعا وإحصاء، إلا أنها تفيد الإنشاء من وجه، فنص الوعيد، كما تقدم في مواضع سابقة، يحمل العبد على الترك، فمعنى الزجر والنهي فيه: إنشاء، فتجتمع له الدلالتان: الخبرية عن وصف الربوبية والإنشائية لأمر الألوهية، فإن الإله هو الذي يأمر وينهى، فإذا انتهى العبد عما يغضب الرب، جل وعلا، من الأقوال والأفعال، فقد حقق لازم الربوبية من إفراده، جل وعلا، بالألوهية، فآية تصديق الخبر: امتثال الأمر، على ما تقدم مرارا، من التلازم الوثيق بين وصف الربوبية ولازمه من تكليف الألوهية، وما يدل عليه ذلك من التلازم الوثيق بين الباطن العلمي الذي يتلقى الأخبار تصديقا أو تكذيبا، فيتولد من ذلك تصور معقول، ينتج في القلب إرادات خير أو شر، يظهر أثرها لزوما في الواقع المحسوس.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"القدير الذي لكمال قدرته يهدي من يشاءُ ويضل من يشاءُ ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً والبر براً والفاجر فاجراً، وهو الذي جعل إِبراهيم وآله أَئمة يدعون إِليه ويهدون بأَمره، وجعل فرعون قومه أَئمة يدعون إِلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أَحد بشيء من علمه إِلا بما شاءَ سبحانه أَن يعلمه إِياه". اهـ

ص152.

وهو سبحانه: القدير، فله القدرة على إيجاد الأعيان، وله القدرة على تصريفها على سائر الأحوال، فمهتد إذا شاء فضلا، وضال إذا شاء عدلا، فليست القدرة على الإيجاد فقط، فذلك منطوق لسان المشركين: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، بل هو القدير على حد المبالغة، يصرف القلوب، على ما قد علم أزلا من حالها، فقدر لكل ما يلائمه من مادة هدى أو ضلال، وهو القدير الذي دانت له السماوات والأرض، وخضع لكلماته الكونيات: الأحياء والجمادات، العقلاء والعجماوات، فكل عن أمره الكوني يصدر، فليس ثم حركة في كونه لا يعلمها، فهو الذي قدرها بحكمته في عالم الغيب أولا، وأوجدها بقدرته في عالم الشهادة ثانيا، فله التقدير الكوني على جهة الإحاطة والنفاذ، فلزم من ذلك أن يكون له التقدير الشرعي على جهة الكمال، فالشرع فرع الكون، كما تقدم مرارا، فبلوغ وصفه الذاتي والفعلي الكمال المطلق يدل بداهة على بلوغ أمره الكوني، خلقا، وأمره الشرعي، حكما: الكمال المطلق، فالكامل لا يصدر عنه إلا كامل، فتقديره الكوني النافذ: أثر صفات جلاله فلا راد لقضائه، وتقديره الشرعي الحاكم: أثر صفات جماله، فلا معارض لحكمه الذي أنزله، وإن عدل عنه ضلال البشر إلى قياس أو ذوق، فحكمهم، وإن تحقق منه نوع مصلحة، فهي مصلحة جزئية آنية قاصرة، لقصور العلم والتصور، فيكون الحكم قاصرا لزوما، فالنقص يولد النقص، بل إن ما فيه من كمال، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، إنما يكون فيما وافق فيه الشرع المنزل، وإن لم يدر قائله بذلك، وكم أنطق الله، عز وجل، من لسان كافر أو جاحد بالرسالة الخاتمة بما يدل على كمالها وصلاحها، فواطأها بما أجرى الله، عز وجل، على لسانه من الحق، لتقوم عليه الحجة من لفظه، فشهد بكمال ما يجحده، ولا أدل على ذلك، كما ضرب بذلك المثل ذلك الفاضل، لا أدل على ذلك من الأزمة الاقتصادية التي عاشها العالم في الآونة الأخيرة، ولا زالت آثارها إلى اليوم قائمة، فقد حملت الغرب حملا على الإقرار بتفوق النظام المالي الإسلامي على النظام الرأسمالي الغربي، فأخذوا منه ما يصلح دنياهم، وجحدوا، لتعصبهم ومركزيتهم الفكرية العنصرية، جحدوا ما يصلح أمر أخراهم، فأنطقهم الله، عز وجل، بلسان المقال والحال، بكمال الشريعة الخاتمة، فالمصلحة الكلية باعتبار الحال والمآل، لمن تدبر ورزق فهما وسدادا، المصلحة الكلية في الشرع المنزل، وكماله مئنة من حكمة شارعه، عز وجل، كما أن نفاذ قدره الكوني مئنة من كمال قدرة مقدره.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير