تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والعطش وكثرة السهر قد أفسدت عقله، كما يقع لكثير من الغلاة في هذا الباب، فكثير منهم جاهل يسير في طريق العمل بلا دليل من العلم يعصمه، فترد على عقله المختل وساوس الشيطان فيظنها فتحا من الرحمن بنبوة أو ولاية تسقط التكليف، أو ترفعه إلى منزلة فوق منزلة البشر، فهو شيخ طريقته ومحقق مقالته، فله من الفتوح ما ليس للأتباع، ولا سبيل لهم إلى بلوغ السلامة ونيل الكرامة إلا بالسير على خطاه، فتتعدد صور الهداية بتعدد صور الجائعين في الخلوات!، فلكل تجربة تباين تجارب بقية الشيوخ، فمن مقل ومن مستكثر من الرسوم والأوراد، فلكل رسوم طريقته من هيئات التعبد والتنسك، ولكل أذكاره التي لا مستند لها إلا نقل ضعيف، أو تأليف حادث لمأثور صحيح، فيركب منها هيئات ومقادير ليس عليها دليل فيقع في البدعة الإضافية، فأمره دائر بين البدعة المطلقة بإحداث ما لا أصل له من الديانة، والبدعة الإضافية بالتأليف والتركيب لما صح عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم على وجه حادث لم يرد في كتاب أو سنة، ولم يؤثر عن سلف هذه الأمة.

والشاهد أنهم بذلك قد خرجوا عن قانون الأنبياء عليهم السلام فـ: (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، و: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ)، فهم بشر يفتقرون إلى ما يفتقر إليه البشر من أسباب الحياة، مع كونهم خير طباق الخلق، فكيف بمن دونهم؟!، فإن فقره ثابت من باب أولى، إذ لو كانت طريقته في طلب ما ليس للبشر من خصائص الغنى بهجر الأسباب على جهة الغلو بترك كلي أو إقلال خارج عن حد العادة، لو كانت طريقته تلك طريقة مثلى، فهي مما حض عليه الشارع وجوبا أو استحبابا، لكان الأنبياء بها أولى وعليها أحرص، لا سيما أفضلهم وخاتمهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو القائل في بيان حاله، وحاله أكمل الأحوال البشرية بداهة، لكونه أفضل الخلق على الإطلاق، فلا مطمع لملك أو إنسي أو جني في بلوغ منزلته، فلا يصل إليها ملك مقرب أو نبي مرسل، فهو القائل في بيان حاله: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"، فلم يخرجه وصف الرسالة عن طور البشرية، كما تقدم من قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، فصدر الخبر بوصف البشرية قطعا لطريق الغلو، ثم ثنى بوصف الرسالة قطعا لطريق الجفاء، فهو بشر فيما يتناوله من أسباب حياة البدن الكثيف، فيشترك مع سائر البشر في ذلك، وإن فضل عليهم بقدر زائد من قبيل: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي"، وما روي عن طاووس وصفوان بن سليم مرسلا وروي نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة أربعين رجلا في الجماع"، وقال سليمان عليه السلام: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، فذلك القدر وإن امتاز به الأنبياء عموما والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خصوصا، إلا أنه لا يخرجهم ولا يخرجه عن طور البشرية بل غايته أن يثبت به لهم أشرف الهيئات والجبلات الآدمية، وهو: نبي بما يتناوله من أسباب الوحي: مادة حياة الروح اللطيف، فذلك قدر زائد قد اختص به الأنبياء عليهم السلام وأعظمهم قدرا وأوفرهم نصيبا منه النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يعدل عن هذه الطريقة الكاملة إلى بنيات الطرق الحادثة بطرائق الزهد والنسك الغالية إلا محدث في الملة، كما وقع من رهبان النصارى، أو النحلة كما وقع من شيوخ الطرق أصحاب الكشوف والإلهامات الشيطانية، التي ظنوها لسوء قصد باطن وفساد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير