تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عمل ظاهر فتوحا رحمانية، ولا يميز بين النوعين: الرحماني والشيطاني، إلا من أوتي علما به يحصل الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فأمرهم قد يلتبس، بادي الرأي، بخارقة يجريها الرب، جل وعلا، على أيديهم، فتكون في حق الصالح: آية أو كرامة تدل على نبوة صادقة أو ولاية صحيحة، وتكون في حق الطالح: خارقة شيطانية تدل على فساد طريقة صاحبها، فيفتن بها أصلا، ويفتن بها أتباعه تبعا، فهي تكريم للأول، إهانة للثاني، وإن كان القدر الظاهر منها مشتركا، وإن كانت الآية أو الكرامة، عند التحقيق، أعظم قدرا، بل الآية لا تلتبس بالكرامة، فالآية معجزة من كل وجه فلا تجري إلا على يد نبي بخلاف الكرامة التي تجري على أيدي من دون النبي من الأولياء الصالحين، ومع ذلك فالاشتراك، ولو في الجنس الأعلى، مظنة الإجمال، فيشتبه الأمر على عموم المكلفين، إذ خرق العادة لكليهما حاصل، فلا يفصل هذا النزاع، ويرفع هذا الإجمال إلا بيان كبيان الإمام المطلبي رحمه الله: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة"، فمناط الأمر: تعظيم النبوة تصديقا واتباعا، ولا يكون ذلك إلا للولي الصالح، فلا بد أن يظهر من صلاح طريقته ما يمتاز به عن الكاهن أو الساحر، فهما أعظم الناس قدحا في النبوة، فليس لهم من التصديق والامتثال نصيب، فـ: (مَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)، فيستحيل بداهة أن تجتمع ولاية الرحمن وولاية الشيطان في إنسان واحد، فهما على حد التناقض، والمتناقضان لا يجتمعان ولا يرتفعان كما قرر أهل النظر.

فالمسيح عليه السلام وسائر من غلا فيهم أتباعهم أو المنتسبون إليهم، ولو دعوى باطلة لا مستند لها من شرع أو عقل، أولئك لم يكونوا إلا فقراء مربوبين، فلا غنى لهم عن أسباب الحياة، ولا غنى لهم عن امتثال أمر الرب، جل وعلا، فلم يطلب المسيح عليه السلام ما ليس له من أوصاف الربوبية، بل أرجع كل ما جرى على يديه من الخوارق إلى الإذن الكوني النافذ: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فثبت بذلك بطلان ربوبيتهم، وبطلان ألوهيتهم لزوما، فهم عباد كبقية العباد لهم من الهيئات البشرية ما يبطل بداهة دعوى من ادعى فيهم الألوهية، فخصائص الألوهية بالأمر والنهي، قد انفرد بها من له كمال الربوبية بالخلق والملك، وليس ذلك بداهة إلا للرب، جل وعلا، بل إن من أثبت له شريكا في ملكه أو أمره، مقر بتفرده بوصف زائد يجعله أعلى درجة، كالأب عند النصارى فإنه أشرف قدرا ووصفا من الابن، وإن أثبتوا لكليهما وصف القدم والأزلية، فالابن عندهم قد صدر عن الأب، فهو أقنوم تجسد فيه اللاهوت، أو وصف من أوصافه هو الكلمة، فالصورة اللاهوتية أو الإلهية أشرف بداهة من الصورة الناسوتية أو البشرية، وذلك قدر يكفي لإبطال هذه المقالة العجيبة، فإن الأمر، يؤول في النهاية، إلى واحد ليس له في وصفه مثيل، فبطل اشتراك غيره معه في منصبه، ولزم عقلا إبطال تجسد ذاته أو وصفه في مخلوق حادث، فذلك وصف نقص مطلق يلحقه بخلقه الحادث الذي تجري عليه أعراض النقص والفناء، فما من مخلوق حادث إلا وله أجل ينتهي ويفنى عنده، وذلك أمر لا يليق بذات أو وصف الرب الأول الآخر، جل وعلا، فالعقل الصريح شاهد عدل لما جاء به النقل الصحيح في هذا الباب الجليل وفي كل أبواب الديانة، وغنى الرب، جل وعلا، المطلق، مما يستدل له بنص الشرع وقياس العقل على نحو تزول معه كل شبهة، بل ويستدل به على لازمه من تمام تفرده بمنصب الربوبية تكوينا، فلا خالق إلا هو، وتشريعا فلا حاكم إلا هو، بحكمه الذي أنزله في كتابه أو أجراه على لسان أنبيائه، فهم أصحاب الشرائع المتبوعة، فحكمهم من حكمه فـ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير