تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ما يسوغ دعاءه.

والشاهد أن إثبات أي وصف رباني للمخلوق هو شرك في الربوبية، ولا يقتصر الأمر، كما تقدم مرارا، على صور الشرك الصريح بصرف العبادة مباشرة لغير الله، عز وجل، بل يتعدى ذلك إلى صور من الشرك العصري، إن صح التعبير، كحال من بدل الشرع المنزل، فاتخذ أربابا من البشر يشرعون بما استحسنته عقولهم أو أذواقهم، سواء أكان ذلك في التشريعات التعبدية كما يقع من كثير من شيوخ الطرق، فكل يحدث من الأذكار والأوراد والهيئات التعبدية ..... إلخ ما يضاهي به المشروع منها، فهو محدث في الديانة من هذا الوجه، ثم يأمر أتباعه لزوما على جهة الإيجاب، بالسير على تلك الطرائق الحادثة، فلسان حاله: التشريع في العبادات، أم في التشريعات العامة كما يقع من صناع الدساتير الوضعية التي لا تمت في جملتها إلى الشرع المنزل بصلة، وإن وافقته في بعض المسائل، غالبا ما تقتصر على الشئون الخاصة كالأحوال الشخصية، فحال المحدث في التشريع العام كحال المحدث في التشريع الخاص، فهو يحدث ما شاء مما استحسنه عقله من الأحكام، ثم يدعو غيره إلى اتباعه اختيارا أو لزوما، فيضطر أصحاب الحقوق إلى الاحتكام إليه لاستخلاص حقوقهم، وذلك، أيضا، مما يقدح في ربوبيته، عز وجل، ولسان حال بل مقال فاعله في كثير من الأحيان: الطعن في حكمة الرب، جل وعلا، وعلمه، والطعن في الحكمة: طعن في الفعل الصادر عنها، فالفعل لا يكون كاملا إلا إذا صدر ممن له كمال الحكمة، فإذا انتقص من قدرها انتقص من قدره بداهة، فالفرع يتبع أصله في الحكم: كمالا أو نقصانا.

ومثل ذلك اتخاذ الشفيع عنده بلا إذنه، فإن ذلك قياس فاسد للرب، جل وعلا، على خلقه، فالملك من ملوك الدنيا يقبل شفاعة الشافعين عنده، ولو اضطرارا فلا يكون المشفوع فيه على مراده ولكنه يضطر إلى قبول الشفاعة اضطرارا خشية خروج الشافع عن أمره، فيداهن ويتملق الشافع ليستبقي وده، فهو من أعوانه، كما اطرد من حال أئمة الجور، فإنهم يقربون أعوانهم ويقبلون شفاعاتهم في ذويهم وأتباعهم، ليستبقوا قوتهم في حفظ ملكهم الجائر، فيخشى الملك الظالم ألا يلبي شفاعة تابع من أتباعه لئلا يكيد له، ويثير الرأي العام عليه!، أو يفضحه إن كان قد اطلع على أدلة تدينه، وتلك معان منتفية في حق الرب، جل وعلا، بداهة، فإنه جل وعلا، غني عن الشريك والظهير فلا يفتقر إلى اصطناع أتباع من خلقه، إذ كيف يفتقر إليهم وهو الذي أوجدهم وأمدهم بالأسباب، فكل ما لهم من القوى والأسباب إنما هو محض عطية منه، لا تنقص من ملكه، جل وعلا، شيئا، فكيف يفتقر إلى قبول شفاعة من هذا حالهم من النقص والفقر، وهو الكامل في ذاته الغني في صفاته.

وهي حيلة قديمة زينها الشيطان للغلاة في البشر فأغراهم باتخاذ الوسائط الأرضية في صورة من أفسد صور قياس العقل قيس فيها ملك الملوك، جل وعلا، على سائر ملوك الأرض الذين لا يمكن الدخول عليهم غالبا إلا باتخاذ الوسائط والشفاعات.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأَرض، ولم تسعه أَرضه ولا سماواته ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء وهو بكل شيء محيط، ولا تنفد كلماته ولا تبدل، ولو أَن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداداً وأَشجار الأَرض أَقلاماً، فكتب بذلك المداد وبتلك الأَقلام، لنفد المداد وفنيت الأَقلام، ولم تنفد كلماته إِذ هى غير مخلوقة، ويستحيل أَن يفنى غير المخلوق بالمخلوق. ولو كان كلامه مخلوقا - كما قاله من لم يقدره حق قدره، ولا أَثنى عليه بما هو أَهله - لكان أَحق بالفناءِ من هذا المداد وهذه الأَقلام، لأَنه إِذا كان مخلوقاً فهو نوع من أَنواع مخلوقاته، ولا يحتمل المخلوق إفناءَ هذا المداد وهذه الأَقلام وهو باق غير فان". اهـ

ص152

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير