تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وامتثال أمره، ذريعة إلى توحيد المرسِل، جل وعلا، وذلك معنى يغيب عن كل من غلا في أمر المحبة فجعل المحبة الشركية بالغلو في الأفاضل من جنس المحبة الشرعية، مع أنها تعارضها، بل تنقض عراها نقضا، فالمحبة الشرعية: محبة توحيدية لا تقبل الشراكة، والمحبة الغالية: محبة شركية تخلع فيها أوصاف الخالق، عز وجل، على المخلوق، فيصرف له من حقه تبارك وتعالى، ما يعادل قدر ذلك الصرف، فذلك جار، على ما تقدم مرارا، من التلازم الوثيق بين الربوبية والألوهية، فهذه محبة باطلة فيها من جنس الميل عن الحق وإعطاء من لا يستحق ما لا يستحق من أجناس التعظيم بالعبادة التي لا تكون إلا للرب جل وعلا بداهة، فيها من هذا الجنس الجائر ما ينقض معنى العدل نقضا، فهو على النقيض منه: ظلم بين، بل هو أعظم أجناس الظلم قدرا ووصفا.

والشاهد أن معنى المحبة معنى كلي يجمع أجناسا من المحبة الكاملة والمحبة الناقصة، فلا يثبت منها لله، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله، إلا الأجناس التي تليق بكمال ذاته القدسية، لئلا يقع التناقض بين صفاته العلية، فلو شبه مشبه يقيس وصف الرب، جل وعلا، على وصف عباده، لو شبه محبته بمحبة البشر التي تدرك آثارها بالحس، ويقع فيها من صور النقص ما يقع، فالغالب على البشر الميل واتباع الهوى في الحب والبغض، فذلك مما جبلت عليه النفوس التي تتعصب للمحبوب فترفعه فوق المرتبة التي هو بها، بمقتضى الشرع، كما رفعت النصارى المسيح عليه السلام من مرتبة النبوة فتلك مرتبته الشرعية إلى مرتبة الإلهية فتلك مرتبة شركية لا يرضاها صاحب الشأن، عليه السلام، بل هو منها براء، فلسان مقاله يوم العرض: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فما حصلوا شيئا من الغلو فيه إلا ضد ما أرادوه فنسبوا إليه من أوجه النقص ما نسبوا فقد أهانه أعداؤه وهم أخبث أجناس البشر فأغروا به عدوه ثم تسلطوا عليه بالقتل والصلب الذي نزهه الرب جل وعلا، عنه فرفعه وطهره من رجسهم، فمقالتهم فيه، عليه السلام، من التعصب والميل في الحب بمكان، ونظيره في طرائق الإسلاميين من أصحاب المقالات والطرق ما وقع من بعض الفرق الغالية في تعظيم بعض أكابر الصحابة، رضي الله عنهم، على وجه وقع به جنس ما وقع في دين النصارى من رفع بشر فوق منزلته، على نحو لا يرضاه، هو نفسه، فذلك عند التحقيق انتقاص من قدره وقدح في كماله وفضله، وإنما يغلو الجاهل في محبوبه فيذمه من حيث أراد أن يمدحه، وذلك شأن كل غال، فالجهل والتعصب والغلو قرائن لا تنفك غالبا، وفي مقابل هذا الغلو في المدح، يقع لزوما غلو آخر في الذم، فتنسب كل فضيلة إلى المحبوب، ولو لم تكن فيه، بل قد تكون، كما تقدم، مما يذم به، ولكن الغالي فيه لنزقه وجهالته قد فسد قياس عقله فلا تمييز عنده بين المنقبة والمنقصة، وفي المقابل تنزع كل فضيله من غيره ممن يساويه في المنزلة، بل قد يفوقه، فالنصارى، قد غلوا في المسيح فنسبوا إليه الآيات والمعجزات وجعلوها مئنة من ألوهيته، وذلك أمر ينقضه قياس العقل الصريح فمعجزات موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام أكثر عددا وأعظم قدرا ولم يلزم من ذلك غلو فيهما بادعاء الألوهية لهما، ولكن القوم لعظم جهالتهم، قد غفلوا عن ذلك ثم عمدوا إلى القدح فيمن سواه ممن يشاركه وصف النبوة، لا سيما النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أبان عن عوار طريقتهم بما أوحى إليه الرب جل وعلا من التنزيل الذي جاء بتقرير التوحيد الناقض للتثليث، فتولد من غلوهم في المدح، غلو آخر في الذم، وفي كليهما قد أساءوا الأدب لجهل عظيم وهوى مستحكم، وذلك أمر ظاهر فيهم إلى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير