تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يومنا هذا، بل قد زاد في الأعصار الأخيرة، فصار القدح في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نصارى الغرب والشرق أمرا ممنهجا، يكشف عن سوء طوية وضحالة علم وضعف عقل صاحبه، فلا نقل ولا عقل ولا إرادة صحيحة لطلب الحق بتجرد وإنصاف، وهو، أمر، يظهر، أيضا، بنفس القدر في مسالك الغلاة من الإسلاميين، فلا بد من سلب كل فضيلة من غير الممدوح، بل لا بد من نبزه بكل نقيصة، ولو كان أرفع شأنا من الممدوح، كما يظهر ذلك من طريقة من قدح في جمهور الصحابة، رضي الله عنهم، ففرق بينهم مع تماثلهم في وصف الصحبة العام وتفاضلهم بما قد اختص به بعضهم دون بعض من الخصائص أو الفضائل، فأشبه من وجه، من قد قال فيهم الرب جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)، فهؤلاء يريدون التفريق بين الرسل عليهم السلام فيؤمنون ببعض ويكفرون بعض، وأولئك يريدون التفريق بين الصحابة، رضي الله عنهم، فيوالون بعضا ويعادون بعضا، والمسلك، كما تقدم، واحد، وإن اختلفت أعيان الممدوحين، فالنفس البشرية واحدة في حركاتها، فتتشابه مسالك أهل العدل والاستقامة، كما تتشابه مسالك أهل الجور والضلالة.

والشاهد أن من شبه الرب، جل وعلا، بمحبة هذا وصفها فإنه بين أمرين لا ثالث لهما:

إما أن يثبت هذه المحبة الباطلة لله، عز وجل، فيكون قد وقع في قياس التمثيل، فسوى بين وصف الخالق، جل وعلا، ووصف المخلوق لمجرد الاشتراك في معنى المحبة العام.

وإما أن يفر من هذا اللازم، وليس بلازم إلا له بما ألزم به نفسه من القياس الباطل، فينفي وصف المحبة عن الله، عز وجل، بالكلية، كما فعل المعطلة، أو يؤوله بنحو إرادة الإحسان أو الإنعام ..... إلخ، كما فعل المتكلمون، فغايته أن ينفي ذلك المعنى الباطل، ونفيه حق، ولكنه قد نفى معه المعنى الصحيح الثابت للرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله فلا يعتريه ما يعتري وصف البشر من النقص، وإن اشترك معه في المعنى الكلي الجامع، فذلك من قبيل الاشتراك المعنوي في الأصول الذهنية للمعاني دون حقائقها الخارجية، فلكل وصف يليق بذاته كمالا أو نقصانا كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فلا يستوي وصف الخالق، عز وجل، الكامل، ووصف المخلوق الناقص.

وأصل كل بلاء في هذا الباب: تشبيه الخالق، عز وجل، بالمخلوق، كما وقع من النصارى جفاء في حق الرب، جل وعلا، فجوزوا اتصافه بأوصاف النقص، وشاركهم في ذلك من وجه: نفاة صفات الكمال عنه، جل وعلا، فلازمه اتصافه بنقيضها من أوصاف النقص الذي يتنزه عنه شرعا وعقلا، وتشبيه المخلوق بالخالق، ولا يكاد ينفك عن النوع الأول، كما وقع من النصارى، أيضا، غلوا في حق المسيح، عليه السلام، فخلعوا عليه من أوصاف الربوبية ما انتفى بداهة في حق عموم البرية، وشاركهم في ذلك من وجه أيضا: كل من غلا في معبود أو متبوع أو مطاع، سواء أرضي بذلك كطواغيت البشر، كأمثال السحرة الذين يدعون علم الغيب والقدرة على التأثير بالضر والنفع فينازعون الرب، جل وعلا، وصفا من أخص أوصاف ربوبيته وهو التدبير الكوني، فأولئك من جملة الطواغيت، أو من جوز لنفسه أن يعارض شرع الرب، جل وعلا، بشرع مبدل وضعه بهواه أو ذوقه فينازع الرب، جل وعلا، أيضا، وصفا من أخص أوصاف ربوبيته وهو التدبير الشرعي، فهو، أيضا، من جملة الطواغيت، أم لم يرض، كالملائكة والمسيح، عليه السلام، وسائر الأئمة والصالحين الذين ابتلوا بالغلو فيهم وهم من ذلك براء فـ: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، و: (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأنه أفرح بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأَرض المهلكة بعد فقدها واليأْس منها". اهـ

ص152.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير