تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فذلك من عظم فضله وكرمه، فمع غناه التام عن عبده العاصي، يمهله ويحلم عليه، حتى يراجعه فيفرح بتوبته، فرحا يليق بجلاله، فنسبة الفرح هنا، أيضا، ليست كنسبة الفرح إلى البشر الذين يفرحون بمسرات طارئة لم يكن لهم بها علم سابق، وذلك منتف في حق الرب، جل وعلا، بداهة، بل هو العليم أزلا، فيعلم متى يتوب العاصي الذي امتن عليه باصطفائه وتقريبه فقبل توبته مع عظم إساءته، وذلك أمر يجد أثره كل عاص قد أمهله الرب، جل وعلا، حتى تاب، فيقدر في عقله: ماذا لو لم يتب الرب، جل وعلا، عليه فمات على عصيانه ماذا سيكون حاله؟!، فذلك مما يستشعر به منة الرب، جل وعلا، عليه، فنعمته حاصلة حال العصيان بالإمهال، حاصلة حال التوبة بالإقلاع، حاصلة حال الطاعة بتيسير أسبابها فذلك من عظيم فضله، فهو المنعم في كل حال. ومن لم يقدر له التوبة فإنه يصبر عليه ويوفيه أجره في هذه الدار، فلا ينفك عن نعمة من الرب، جل وعلا، وإن كانت معجلة فـ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ).

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأَنه سبحانه لم يكلف عباده إِلا وسعهم وهو دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم فإِنه ما يسعونه ويسهل عليهم ويفضل قدرهم عنه كما هو الواقع.

وأَنه سبحانه لا يعاقب أَحداً بغير فعله ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله ولا على فعل ما لا قدرة له على تركه". اهـ

ص153.

فذلك من كمال عدله وحكمته، جل وعلا، فقد علق الأحكام في الدارين على الأوصاف التي يكتسبها الفاعل بفعله، فالأسماء والأحكام الشرعية فرع عن تلك الأفعال، فيستحق اسم المدح ووصفه بفعل ما يستوجبه، ويستحق ضده من الذم بفعل ما يستوجبه، أيضا، ولا يكلف، جل وعلا، لنيل درجة الكرامة إلا بما يطاق، فلا يؤاخذ المكره، على تفصيل، أو المجنون ... إلخ ممن تعرض لهم عوارض التكليف فترفعه، فلا يلامون شرعا وإن توجه إليهم خطاب الضمان وضعا. فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لتقام بهم الحجة: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فلا ثواب ولا عقاب إلا بعد ورود الشرع، وإن أدرك العقل طرفا من حسن أو قبح الأقوال والأفعال، فتلك آثار الفطرة المجملة التي تولى الرسل عليهم السلام بيانها، فببيانهم زال الإشكال، وأقيمت الحجة الرسالية على عموم البرية، إلا من استثنى الرب، جل وعلا، من أهل الفترات، كما في حديث الأسود بن سريع، رضي الله عنه، مرفوعا: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب، قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهَرَمُ فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليُطِعنّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا"، ولم يؤاخذ مكلفا إلا بفعله أو آثاره المترتبة عليه اللازمة له، فيحاسب على فعل غيره من هذا الوجه، فذلك جار مجرى: "مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا"، فالأصل في هذا الباب: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وذلك عموم مخصوص بالوزر المتعدي الذي يقع فيه الإغواء للغير، فيناله من أوزارهم، فذلك، عند التحقيق، من كسبه الذي يؤاخذ عليه، فلولا أن قدر الرب، جل وعلا، عليه ذلك كونا، فجعله إمام ضلالة عقوبة لفئة نكصت عن الشريعة، لولا ذلك ما وقعوا في المحظور، فصار سببا مؤثرا يتوجه إليه الذم بمجموع أفعالهم: "ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده"، كما يتوجه إليهم بآحادها: "من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا"، وذلك أمر ظاهر في واقع الناس فكم من عالم سوء، لا سيما في زماننا، قد أفتى بالباطل، فانساق الناس وراءه متابعة لأهوائهم، فكانت فتواه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير