عقوبة لهم، فلو علم الله، عز وجل، فيهم خيرا لأسمعهم فتوى حق من لسان إمام هدى، ولكنه، بمقتضى علمه الأول المحيط، علم فيهم شرا فأسمعهم ضلالة، أشربها القلب، فهو محل قابل لها بما طبع عليه من فساد التصور والإرادة، فـ: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ).
ونظيره قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، فقد استدل بها من قال بعدم انتفاع العبد يما يوهب له من ثواب الأعمال بعد موته مما ورد الدليل به كالصدقة والحج، وأجيب بأن ذلك من كسب من وهب له، وهو بالخيار يهب ثواب عمله لمن أحب، وهو من سعي الميت من وجه آخر، إذ قد اكتسب محبة أولئك في دار الابتلاء بما بذله لهم من الإحسان، فذلك نوع كسب، يجعله أهلا لنيل ما يهبونه له من ثواب الأعمال.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان جملة من أوصاف الرب جل وعلا:
"وأنه حكيم كريم":
فذلك جار على ما تقدم من تعليق الحكم على سببه، فتعلق أوصاف المدح والذم على أسبابها الشرعية مئنة من حكمة من سن الشرائع وأرسل الكتب وبعث الرسل عليهم السلام، وحكمته، تبارك وتعالى، ظاهرة في سننه الكونية، فعلقت الأفعال على القوى الكامنة في الأعيان، فهي الأسباب التي لا تعمل إلا بإذنه، جل وعلا، الكوني النافذ، وعلقت الأحكام الشرعية، كما تقدم، على الأعمال، صلاحا أو فسادا، فالعمل الصالح يلائمه وصف المدح والوعد بالثواب، والعمل الفاسد يلائمه وصف الذم والوعيد بالعقاب، فـ: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)، و: (وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، لكمال عدله وحكمته وغناه عن ظلم عباده، فلا يظلم، كما تقدم مرارا، إلا فقير غير مستغن عن متاع من ظلمه، فيسلبه إياه ليستمتع به، وذلك معنى تنزه عنه الرب جل وعلا شرعا وعقلا.
وهو الكريم فيعطي بلا سؤال، فمنزلة الكرم أعلى من منزلة السخاء، فالسخي يعطي عند السؤال، فعطاؤه مقيد بخلاف عطاء الكريم المطلق، ولله من الأسماء: الحسنى، فالسخي: حسن، والكريم: أحسن، فيعم الحسن ويزيد عليه، وذلك الأليق بمقام الرب جل وعلا.
"جواد ماجد": فالجود من أوصاف الجمال، والمجد الذي صيغت منه الصفة المشبهة: "ماجد" فهي مئنة من ثبوت الوصف وملازمته لذاته القدسية، المجد اسم جامع لصفات الجلال في مقابل، الحمد فهو اسم جامع لأوصاف الجلال، ولذلك قرن بينهما في التشهد فهو، تبارك وتعالى، الحميد بأوصاف جماله، المجيد بأوصاف جلاله، وقد يراد بها المعنى الأعم، فالمجد مئنة من السعة، فله، جل وعلا، وصف السعة ذاتا وصفات، وذلك أمر يستغرق عموم صفاته، سواء أكانت صفات جمال أم صفات جلال.
"محسن": فذلك وصفه المتعدي إلى عباده فأحسن إليهم بأجناس النعم الشرعية والكونية، فأنزل الكتب والشرائع إحياء للنفوس، وأنزل الأرزاق والأقوات إحياء للأبدان.
"ودود": يقبل من تاب بعد إساءة، بل يصطفيه ويدنيه فيهبه من خالص محبته، ويسبغ عليه آلاءه الظاهرة والباطنة، فذلك من عظيم منته.
"صبور": يصبر على أذى خلقه، فـ: "لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذَى سَمْعِهِ مِنَ اللهِ، يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَداً وَهُوَ يَرْزقُهُمْ وَيُعَافِيهِم"، ويصبر على الطغاة استدراجا فذلك من إملائه لمن سبق في علمه توليه وكفره، ويحلم عمن سبق في علمه رجوعه وتوبته فذلك من إمهاله.
"شكور يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، لا أحد أصبر على أذى سمعه منه، ولا أحد أحب إليه المدح منه، ولا أحد أحب إليه العذر منه، ولا أحد أحب إليه الإحسان منه": يعطي على القليل الكثير كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين كابن كثير رحمه الله.
ولا أحد أحب إليه المدح منه: فذلك مما باين به الخالق، عز وجل، المخلوق، فيحب المدح إذ هو له أهل، لكمال وصف ذاته وفعله، بخلاف المخلوق فإن ذلك لا يليق به لنقصان ذاته وصفاته فحبه لما ليس له مئنة من الظلم والتعدي الذي يذم صاحبه، فافترق الخالق، عز وجل، والمخلوق من هذا الوجه.
يقول ابن القيم رحمه الله:
¥