تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تأويل تلك المعرفة: الرضا بما رضيه لنا من العلوم النافعة والأقوال والأعمال الصالحة، فله الحمد على أن بعث الرسل عليهم السلام بذلك، فأقاموا أعدل ملك، فلا ملك أعدل منه، ولا حال أكمل من حاله وحال ما كان على شاكلته من خلافات الرشد وممالك وإمارات العدل، فتأويل حمده العلمي في الواقع العملي في دار الابتلاء: التعبد له بمقتضى تلك المحامد أفرادا وجماعات، فلا يرضى الفرد إلا بما رضيه الرب، جل وعلا، له، ولا ترضى الجماعة إلا بما رضيه الرب، جل وعلا، لها، فتلك حقيقة الإيمان الذي تحصل به النجاة فـ: (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

ومع حمده في دار الابتلاء بتأويل ما جاء به الأنبياء، عليهم السلام، من محامده، تصديقا بخبره وامتثالا لحكمه، فذلك دليل صدق الحامد، فـ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فلن يكون له الحمد كما أراد، إلا من طريق النبوات، فلا طريق يوصل إلى مراده الشرعي، جل وعلا، إلا هي، ولا نجاة إلا بسلوك سبيلها فـ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فتلك سبيل المؤمنين، وأما سبيل المجرمين فسبيل: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)، مع هذا الحمد، يكون حمده في دار الجزاء، فيحمده المؤمن على فضله بالثواب، ويحمده الكافر على عدله بالعقاب، فكل قد حمد، فحذف الفاعل في قوله تعالى: (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): مئنة من العموم فيحمده كل خلقه، وتحمده ملائكتة على كمال وصفه، وعظيم فضله، وتمام عدله: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

فـ: "أخبر عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: {وَقُضِى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيْلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].

وأخبر عن حمد أهل الجنة له وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها ًإلا بحمده، فقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} [الأعراف: 43]، و: {دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلامٌ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَن الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ". اهـ

ص155.

واعترف أهل النار بعدله، فـ: "قال عن أهل النار: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [القصص: 74 - 75]، وقال: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11].

وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم وعلموا أنهم كانوا كاذبين فى الدنيا مكذبين بآيات ربهم مشركين به جاحدين لإلهيته مفترين عليه، وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم وأخذهم ببعض حقه عليهم وأنه غير ظالم لهم وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده وإنما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما تقول الجبرية". اهـ

ص156.

فلم يكلفهم جبرا، ولم يرسل الرسل عليهم السلام عبثا، ولم يظلمهم بأن كلفهم بما لا يطيقون فعله، بل فعلوا ما فعلوا مختارين، بإرادة خلقها الله، عز وجل، فيهم، فليسوا بمجبورين، ولم تخرج تلك الإرادة المخلوقة، كما تقدم مرارا، عن إرادته الكونية العامة، فتلك مشيئته النافذة في كل خلقه، فذكر لـ: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)، ولن يحصل المراد: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير