تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الكدر، التي تعقبها السعادة الآجلة برسم التأبيد في دار الفرح، دار: (فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، فأتباع النبوات الصحيحة أكمل الناس عقولا إذ جمعوا بين الحسنيين، فلم يصرفوا نهمتهم إلى متاع الدنيا فأورثهم ذلك غفلة عن متاع الآخرة، ولم ينسوا نصيبهم منها، فاستعانوا به على تحصيل المراد الأعظم من جنس النعيم الأشرف، فحالهم حال مبتغي الولد الصالح بوطء يلتذ به، فتلك نعمة معجلة برسم التأقيت فسرعان ما تنقضي ويزول أثرها، لتعقبها نعمة مؤجلة برسم التأبيد فلا انقضاء لها، إن حمد صنعه رب العبيد تبارك وتعالى.

وإلى طرف من هذه الهداية الشرعية الخاصة أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

"ولطفه تعالى فى ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصته وعباده إلى سبل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبب إليهم الإيمان وزينه فى قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين وكتب فى قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه وأعطاهم قبل أن يسألوه وتحبب إليهم بنعمة مع غناه عنهم وتبغضهم إليه بالمعاصي وفقرهم إليه، ومع هذا كله فاتخذ لهم داراً وأعد لهم فيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وملأها من جميع الخيرات وأودعها من النعيم والحبرة والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثم يسر لهم الأسباب التى توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصيرة جداً بالإضافة إلى بقاءِ دار النعيم، وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً وإن أساءوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات". اهـ

ص156، 157.

فحبب إليهم الإيمان فضلا، ولو شاء لبغضهم فيه عدلا، فصرفهم عن آياته كما صرف الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق، فللإيمان اصطفاهم فهداهم: هداية الدلالة وهداية الإلهام، وعن الكفر صرفهم، فالقلوب بيده، جل وعلا، يصرفها كيف يشاء، فييسر لكل أسباب ما قدره عليه أزلا، فقد علم، تبارك وتعالى، المحال صلاحا وفسادا، فأمد كلا بما يلائمه، فـ: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، فكتب في قلوبهم الإيمان أزلا قبل خلقهم، فلما خلقوا، أيدهم بروح منه شرعي وكوني، فذلك من جملة الأسباب التي يسروا بها إلى ما خلقوا له من الإيمان والطاعة، فمن روحه الشرعي: الآيات التي نزل بها روح القدس على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبثها صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نفوس أصحابه، فأحيى بها القلوب وأنار بها العقول، فدينه دين الفطرة الإيمانية والطريقة البرهانية، فزاده أنفع زاد للقلب، وحجته أقوى حجة للعقل، ومن روحه الكوني: ما اطرد من نصره لرسله وأتباعهم، فالسنة المطردة: نصر المؤمنين فـ: (كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، فعلق الحكم على وصف الإيمان، ولا يكتب في القلب إلا بمداد النبوات، فليس ثم علم نافع أو عمل صالح في باب الشرعيات: إلهيات علمية أو حكميات عملية إلا من طريق النبوات الهادية، فالروح منه، جل، نصر وتأييد بالشرع والكون، فابتداء غايته منه، فمنه روح هو من وصفه ككلماته الشرعيات الحاكمات، فليست بمخلوقة، ومنه روح هو من خلقه، كنصر المؤمنين، فهو من قدره فبكلماته الكونيات كان، وهو من فعلهم بمباشرة الأسباب، برسم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير