تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)، فهي أسباب مخلوقة، وبذلهم إياها من فعلهم القائم بذواتهم، على جهة الاختيار، فهو تكليف يتعلق به الثواب فعلا والعقاب تركا، فالفاعل وفعله كلاهما: مخلوق للرب، جل وعلا، فهو الذي خلق الذوات، وهو الذي خلق فيها الإرادات الاختيارية ليقع بها ما قد شاءه أزلا، فلا تخرج عن حد مشيئته العامة، وهو الذي خلق فيها الأفعال، فقامت بها قيام الفعل بفاعله، على جهة الاكتساب بقدرة مؤثرة لا تخرج، كما تقدم، عن قدرة الرب، جل وعلا، العامة، فكل ذلك من روحه، فمبتدى كل ذلك: كلماته الكونيات التي أنشأ بها الخلق، وأجراه على سنن الكون المحكم، ثم بعث إليه الرسل بسنن الشرع الملزم، فمن آمن بالتصديق والامتثال، فقد نال حظه من عطاء الشرع وعطاء الكون فهو أسعد الناس حظا، وأقومهم طريقة: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، فلو استقاموا على طريقة الشرع لنالهم حظهم من عطاء الكون، فـ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، و: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

ومع تحببه إليهم بالنعم الكونية في دار الابتلاء، وتبغضهم إليه بالذنوب والمعاصي، حلم وصبر، فحلم على التائب ليراجع، وصبر على المارق فوفاه أعماله في هذه الدار، ثم امتن بعظيم فضله وكرمه، تبارك وتعالى، على من لا حاجة لهم فيه أو في عمله، فـ: (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فأعد لهم جنات ذات روضات، فيها ما يلتذ به البدن من لذات الحس، وما تلتذ به الروح من لذات العلم، وأشرف أجناس النعيم في دار السلام، النظر إلى وجه السلام، جل وعلا، فالدار داره، والنعيم نعيمه، فامتن بالحسنى وزيادة، فالجنة دار النعم الناصحة من الأكدار، فلا نصب فيها ولا وصب، ولا هم فيها ولا حزن، ولا تكليف إلا بالتسبيح والتحميد، فـ: "فَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ"، كما في حديث جابر، رضي الله عنه، مرفوعا عند أحمد، رحمه الله، في مسنده.

فخلق الجنة وأعدها، فهي تتزين لأهلها شوقا إلى مجيئهم، ثم بعث الرسل هداة إليها، فأرشدوا إلى سلوك الجادة وبينوا معالمها بيانا لا إجمال فيه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فما تركوا خيرا إلا بشروا به، ولا شرا إلا نفروا عنه، ثم يسر لهم أسباب الهداية بما ركز فيهم من فطر سوية، فلا تجد حرجا مما جاءت به النبوات، فما بعثت إلا لإكمالها ببيان ما أجمل منها وتقويم ما اعوج، ثم أعان من اصطفى منهم بمقتضى علمه وحكمته، إعانة كونية خاصة، فخلق فيه معرفة الحق بدليله، وحبه واتباعه، وقوة الثبات عليه، والتجرد من حظ النفس فذلك مما يصد عنه، فكثير يعرف الحق ولكنه يكرهه ويكره أهله لفوات حظ نفسه من جاه أو رياسة بظهور أعلامه، فذلك ممن أقيمت عليه الحجة الرسالية بتيسير أسباب الهداية البيانية، فتلك من جملة العطايا العامة، فليس له نصيب من العطايا الإيمانية الخاصة فـ: (مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، ورضي منهم صبر ساعة، ليفوزوا بعدها بالسعادة الأبدية، فمن صبر على قيد التكليف في دار الابتلاء، فقد أعتق رقبته من قيد العذاب في دار الجزاء.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وذكرهم بآلائه وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحساناً لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم لا بخلاً منه عليهم وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه ونصحهم بأحسن النصائح ووصاهم بأكمل الوصايا وأمرهم بأشرف الخصال ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال.

وصرف لهم الآيات وضرب لهم الأمثال ووسع لهم طرق العلم به ومعرفته وفتح لهم أبواب الهداية وعرفهم الأسباب التى تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه". اهـ

ص157.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير