تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)، فليس ذلك من جنس ما يصيب أصحاب السماع من طرب تستخف به النفوس، فتتمايل الأبدان ميوعة، فالأمر مطرد منعكس، فبالوحي الرحماني يصلح الباطن والظاهر طردا، وبالوحي الشيطاني يفسد كلاهما عكسا.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ويخاطبهم بألطف الخطاب ويسميهم بأحسن أسمائهم كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31]، {يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، {قَل لِعِبَادِى} [إبراهيم: 31]، {وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة: 186]، فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف كقوله: {يَأيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ * الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 _ 22] .............. ". اهـ

ص157، 158.

فذلك من كمال عنايته، عز وجل، بعباده، فإكرام بالفعل وإكرام بالقول، فخطاب الإيمان أشرف خطاب، ومرتبة العبودية على جهة النسبة إلى الرب، جل وعلا، أشرف مرتبة، وخطابه، عز وجل، في كتابه:

خطاب عام لا أعم منه، كما مثل لذلك ابن القيم، رحمه الله، بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فـ: "أل" في "الناس" جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه.

وخطاب عام باعتبار الوصف فهو من قبيل العام الوارد على سبب، فعموم الأول مخصوص بالوصف، وعموم الثاني مخصوص بالسبب، فيرد العموم باعتبار الوصف:

إما: مدحا كخطاب المؤمنين في آي التنزيل فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وإما: ذما كعموم السارق في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فـ: "أل" موصولة، والموصول من صيغ العموم، وعمومه يفتقر إلى صلته فتخصص عمومه بالمعنى الذي اشتقت منه، وهو السرقة، فيعم كل من قام به هذا الوصف من ذكر أو أنثى، فالنص على الأنثى يرفع احتمال التخصيص، ولو مرجوحا، فذلك أليق بسياق التشريع، فالأصل فيه العموم لكل أفراده ذكورا كانوا أو إناثا.

وخطاب خاص أريد به العموم، كخطاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)، فالخطاب خاص أريد به عموم المكلفين بقرينة: (طلقتم)، فالخطاب خاص باعتبار المواجهة، عام باعتبار المتابعة، فالحكم عام في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي أتباع رسالته، وإنما خص بخطاب المواجهة لورود العموم على سبب النزول، فهو خاص بواقعة جرت له، فنزل الشرع العام عليها.

وخطاب عام أريد الخصوص، كعموم "الناس" في نحو قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، فـ: "أل" في "الناس" الأولى عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو أبو سفيان، رضي الله عنه، وكان إذ ذاك مشركا، فجاء الفعل منسوبا إلى واو الجماعة بالنظر إلى معنى الجمع للجند، و "أل" الثانية عهدية ذهنية، أيضا، تشير إلى معهود ثان هو نعيم بن مسعود، رضي الله عنه، وكان إذ ذاك أيضا على الشرك.

وخطاب خصوص لا أخص منه، كقوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، فأريد به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مواجهة وحكما، فذلك من خصائصه فلا يشركه فيها غيره، فحسن النص على ذلك فهو خلاف الأصل في التشريع العام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير