تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لولا المشقة ساد الناس كلهم ******* الجود يفقر والإقدام قتال.

فلولا المشقة ما ساد أبو بكر وعمر، ولو الجود، ما ساد عثمان وابن عوف، ولولا الطعان ما ساد علي وخالد والزبير، ولولا الصبر ما ساد عمار وخباب وبلال، ولولا الصبر على طلب العلم ما ساد ابن عباس وزيد، ولولا الصبر على عداوة الآباء والإخوان ما ساد أبو عبيدة ومصعب، ولولا أن صبر أبو حنيفة على سجن المنصور وتضييقه ما ساد، ولولا أن صبر مالك على الضرب حتى خلعت كتفه ما ساد، ولولا أن صبر أحمد في المحنة ما صار إمام أهل السنة، ولولا أن صبر الشافعي على سكنى البوادي ما صار لسانه حجة، ولولا أن صبر الخليل في كوخه عن الدنيا وزينتها وقد أكلها غيره بكتبه ما صار آية للمخلصين، ولولا أن صبر صلاح الدين على رباط الثغور ما أصلح الرب جل وعلا به الدين والدنيا، ولولا مشقة فتح القسطنطينية ما صار السلطان محمد: محمدا الفاتح، ولولا مشقة الصبر على كيد يهود وأعوانهم ما جرت الألسنة بالثناء على السلطان عبد الحميد آخر رجال آل عثمان العظام، ولولا المشقة ما دخل عبد الرحمن الأندلس فشيد ملكا من العدم، ولولا المشقة ما اجتمع الناس لعد خصال ابن المبارك، ولولا المشقة ما صار الفضيل عابد الحرمين، ولولا مشقة البحث عن الحق ما نجا أبو حامد فصار علما على الإخلاص، ولولا المشقة ما صار ابن تيمية شيخ الإسلام، ولولا المشقة ما انطلقت الحناجر بالتكبير من على جماجم أعداء الدين في الزلاقة، ولولا المشقة ما ساد صاحب البيت نفسه، فصار شاعر الدنيا وشاغل الناس بأبياته.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ويتنصل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنة والتهمة التي نسبها إليه من يعرفه حق معرفته ولا قدره حق قدره: من تكليف عباده ما لا يقدرون عليه ولا طاقة لهم بفعله ألبتة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، وخلق السموات والأرض وما بينهما لا لحكمة ولا لغاية، وأنه لم يخلق خلقه لحاجة منه إليهم، ولا ليتكثر بهم من قلة ولا ليتعزز بهم كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57]، فأخبر أنه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جوداً وإحساناً ليعبدوه فيربحوا هم عليه كل الأرباح كقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]، ولما أمرهم بالوضوءِ وبالغسل من الجنابة الذى يحط عنهم أَوزارهم ويدخلون به عليه ويرفع به درجاتهم، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، وقال في الأضاحي والهدايا: {لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلاَ تَيَمّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

يقول سبحانه: إني غني عما تنفقون أن ينالنى منه شيء، حميد مستحق المحامد كلها، فإنفاقكم لا يسد منه حاجة ولا يوجب له حمداً، بل هو الغني بنفسه الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته وإنفاقكم إنما نفعه لكم وعائدته عليكم". اهـ

ص159.

فتنزه، تبارك وتعالى، عن أن يكلف عباده بما لا يطيقون، فلا حاجة له في عملهم ليشق عليهم ببذل ما لا تقدر عليه نفوسهم من جهد، فالملك الجائر هو الذي يشق على رعيته ليستأثر بثمرتها، وذلك، كما تقدم في أكثر من موضع، مئنة من الفقر الذاتي اللازم، فيفتقر ملوك الدنيا إلى ممالك بعضهم، فيقهر القوي الضعيف على أرضه، ويفتقرون إلى ممتلكات رعيتهم، فيقهرونهم عليها بمكوس الجور، كما هي الحال في زماننا، وتلك صور يظهر بها الفارق بين ملك الملوك، جل وعلا، وسائر الملوك، فهو حكيم لا يفعل إلا ما يصلح به أمر خلقه، وإن بدا لهم خلاف ذلك، لقصور مداركهم عن الإحاطة بحكمة بارئهم، جل وعلا، وغيره من ملوك البشر، في أغلب أحوالهم، سفهاء لا ينظرون إلا إلى المنافع العاجلة، وإن كانت عاقبتها مفاسد آجلة، كما هي حال أغلب ساسة زماننا ممن ساروا على طريقة البراجماتية الانتهازية، فلا عاصم من دين أو حتى خلق، وإنما رقة ديانة وفساد خلق يستبيح صاحبه الكذب والغش للرعية، فهو من أهل الوعيد في حديث معقل بن يسار، رضي الله عنه، مرفوعا: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"، و: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"، وهو سبحانه وتعالى، رحيم بعباده، لا يريد بمجموعهم الحرج شرعا، وإن قضى بوقوعه لأفراد منهم كونا، فالحرج مرفوع شرعا، والضرورة تبيح المحظور بقدرها، والمشقة تجلب التيسير، فتلك كليات جامعة في الشريعة الخاتمة، بها تظهر عناية الرب، جل وعلا، بالمكلفين، وهو سبحانه: غني حميد، له وصف الغنى الذاتي، وله الحمد فذلك لازم غناه، فيحمد لذاته وأسمائه وصفاته، بخلاف ملوك الدنيا الذين يطلبون الحمد بأعطياتهم، فيتألفون القلوب الساخطة لترضى، فبقاء عروشهم ببقاء حشودهم التي ترضى إذا منحت وتسخط إذا حرمت، فلا تغضب إلا لدنياها، وتلك حال بطانة السوء في أي ملك جائر، فنفاق وانتهازية، ودنو نفس وخسة همة ترضى بالدون من فتات الدنيا وإن بذلت دينها ثمنا له، كما هي حال علماء السوء في الأعصار المتأخرة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير