تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من صولة الطائع، فقدره، عز وجل، كله خير، وإن كان ثم شر ففي المقدور الكائن، لا في القدر المكوِّن، فالمقتول ظلما، إن كان من أهل الإيمان، فوزره على من قتله، فحصل له بالخوف العاجل: أمن آجل في دار الجزاء، وحصل لأهله إن صبروا من عظيم العطاء ما لم يكن ليحصل لولا أن ابتلوا بقتله، فذلك من القدر الكوني النافذ، فامتثلوا أمر القدر الشرعي الحاكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فاصبروا ولازموا الصبر على جهة المفاعلة للنفس، فهي العدو الملازم وللعدو المباين من أجناس الكفارة والطغاة، وكم صبر مظلومون على الابتلاء فصاروا من أهل: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وقل مثل ذلك في كل ابتلاء ينزل بأهل الإيمان، فذكر القتل تحديدا لكونه من أعظم المصائب الكونية التي تنزل بابن آدم، فليس بعد زهوق النفس مصاب، فإن الميت أو المقتول لا يهتم بما خلف وراء ظهره، فإذا أدخل قبره، انقطعت صلته بدار الابتلاء فصار من أهل دار أخرى، فلا يعنيه أمور كانت قبل موته بلحظات: شغله الشاغل، فقد مات وانتهى الأمر جملة وتفصيلا!، فالتأسي يكون في بقية المصائب من باب أولى، وسؤال العافية، كما تقدم مرارا خيرا من تمني الابتلاء، فلا يطلبه إلا غافل متعد، ولا يخشاه أو يخشى الجزع حال وقوعه إلا عاقل، ولا يصبر حال وقوعه إلا مسدد، فذلك من تنويع الرب، جل وعلا، في أوصاف العباد، ليظهر بتفاوت صورهم الظاهرة والباطنة: كمال قدرته أن خلق الشيء وضده، فخلق المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصابر والجازع، والعالم والجاهل ..... إلخ، وأرى العباد قدرته بعقد هممهم وفسخها، فكم من ناو توبة قد فسخت همته فعاود المعصية، ليعلم ضعف نفسه إن وكل إليها، فلا عاصم من أمر الله، عز وجل، إلا هو، فإن شاء ثبت فضلا وإن شاء أزاغ عدلا، فوجب اللجوء إليه على جهة الافتقار، والتوجه إليه بالدعاء على جهة الذلة والصغار، فالذل له كمال العز، والافتقار إليه تمام الغنى، فلا يملك العبد من أمر نفسه شيئا، وإن كان مكلفا مختارا، فإن إرادته، مهما عظمت، لا تخرج عن إرادة خالقه، جل وعلا، فهو الخالق للذوات وما يقوم بها من إرادات وأفعال، فلا يتحرك بإرادته المقيدة إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، له الحركة بإرادته المطلقة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فإِنهم لما أعطوا من أنفسهم العزم أن لا يعصوه وعقدوا عليه قلوبهم ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم اقتداره وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم وسعة مغفرته لهم برد عفوه وحنانه وعطفه ورأْفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل ورحيم سبقت رحمته غضبه، وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة وجدوه غفوراً رحيماً، حليماً كريماً، يغفر لهم السيئات ويقيلهم العثرات ويودهم بعد التوبة ويحبهم". اهـ

ص162.

فعرفوا بذلك عظيم وصف جلاله، أن قدر عليهم بعدله الوقوع في المعصية وقد عزموا يقينا ألا يقعوا فيها، ولو شاء لعافاهم بفضله، ثم عرفوا بعد الندم والتوبة عظيم وصف جماله، فوجدوه غفورا يستر الذنب، رحيما بعباده المؤمنين لا سيما التائبين فمحبتهم مقدمة على محبة المتطهرين فـ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، فالتواب قد وقع له من الذل والانكسار ما صيره أقرب إلى الرب، جل وعلا، فالخضوع والذل مظنة الاقتراب، فـ: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، فالسجود مظنة الذلة، والذلة طريق الاقتراب الواسع من الرب، جل وعلا، على جهة الرضا فهو من جنس التقرب في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا"، وقد لا يجد الطائع، بل غالبا ما لا يجد، أثر هذا الذل النافع، فهو معدن العزة، بتوحيد الرب، جل وعلا، بعبادة الاستغفار والتوبة فـ: "عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير