تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فدعاؤهم في حد ذاته طاعة يجوز بل يحسن التوسل بها إلى استجابته وقبول توبته عليهم، فتوسلوا إليه بصفات جماله، فذلك مما يحسن في مقام الطلب، فهم طلاب المغفرة التي لا تكون إلا من الغفور الرحيم، جل وعلا، وتوسلوا بإظهار الذل في مقام يحسن فيه الإمعان في الخضوع والخشوع، فوصف الخضوع الكوني ثابت على الدوام لسائر الخلائق، ووصف الخضوع الشرعي ثابت على الدوام لخاصة الخلق من المؤمنين، وإنما يزيد الوصف شدة في مواضع التوبة والاستغفار فهي من المواضع التي يظهر فيها عجز العبد فلم يملك إلا أن وقع في المعصية لنفاذ الأمر الكوني فيه، فذلك من قهر الرب، جل وعلا، لعباده، فقد قهرهم بالقدر الكوني الذي لا يلامون على وقوعه مما يعرض للبشر من النوازل من قبيل الموت والنوم والجوع والعطش ..... إلخ من عوارض النقص، وقهرهم بمخالفة القدر الشرعي باختيارهم وإن لم يخرج ذلك عن إرادته الكونية العامة، فلا يطيع طائع، ولا يعصي عاص، كما تقدم مرارا، إلا بمشيئة الرب، جل وعلا، فظهر لهم ما يعتريهم من الضعف، فالأبدان قد ظهر نقصانها بورود الأدواء عليها، فامتاز وصف الكمال الثابت للذات الإلهية القدسية من وصف النقصان الثابت للذات الأرضية الناقصة، وذلك مما يبطل قول من زعم مخالطة الكامل للناقص، باتحاد كاتحاد النصارى، أو حلول، فذلك من وصف النقص المطلق الذي تنزه عنه الرب، جل وعلا، شرعا وعقلا وحسا وفطرية، وامتازت الأوصاف الإلهية لا سيما القدرة النافذة، فهو المقتدر إثباتا، فـ: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) نفيا، من الأوصاف البشرية التي ظهر عجزها فلم تصبر عن المعصية فوقعت فيها فحصل لها من ذل العبودية ما يقابل عز الربوبية، كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله، بقوله:

"فأشهدهم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته، فهم على كل حال يربحون عليه، يتقلبون في كرمه وإحسانه، وكل قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير به يسوقه إلى كرامته وثوابه، وكذلك عطاياه الدنيوية نعم منه عليهم، فإذا استرجعها أيضاً منهم وسلبهم إياها انقلبت من عطايا الآخرة ما قيل: إن الله ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا الآخرة". اهـ

ص163.

فلو شهد العباد مقام الجلال، فالله، عز وجل، شديد العقاب، ما التذوا ابتداء، ولو كانوا أهل طاعة، فكيف بأهل المعصية، فمن رحمة الرب، جل وعلا، بنا، أن تعرف إلينا بما تطيقه عقولنا من أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وإلى ذلك المعنى أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

"والرب سبحانه قد تجلى لقلوب المؤمنين العارفين وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومضي مشيئته وعظيم سلطانه وعلو شأْنه وكرمه وبره وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته وما ألقاه فى قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية ووراءه مما لا تحتمله قواهم ولا يخطر ببال ولا يدخل فى خلد مما لا نسبة لما عرفوه إليه". اهـ

فتجلى صورة علمية باطنة في قلوب العارفين، فرؤيتهم له بعين البصيرة معنى، لا بالعين الباصرة ذاتا، فلا يرى، عز وجل، على جهة الحقيقة، بذاته القدسية وصفاته العلية، إلا في دار النعيم، رؤية التنعم لا الإحاطة، فجاءت الرسالات ببيان تلك الصورة، فهي من آكد الصور العلمية، بل هي آكدها، وعنها تتفرع آكد الصور العملية: صورة توحيد الألوهية، صورة: لا إله إلا الله، ففيها التوحيد الاعتقادي بإفراده جل وعلا، بمعاني وحدانية الذات وأحدية الصفات والأفعال، فلا شريك له في وصفه، ولا شريك له في ملكه، فهو المدبر لسمائه وأرضه، بكلماته الكونيات النافذة، وهو المشرع لخلقه ما به صلاح معاشهم ومعادهم، فتلك كلماته الشرعيات الحاكمة، فذلك الوجه الثاني من توحيد الألوهية: توحيده، جل وعلا، بالأعمال باطنة كانت كالتوكل والخشية فـ: (تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)، و: (لَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)، أو ظاهرة كالصلاة والزكاة، فـ: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، واجبة كانت كالصلوات المكتوبات، أومندوبة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير