فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه.
وحكى ابن سراقة في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال يوماً: ما من شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله، فقيل له: فأين ذكر الخيانات فيه؟ فقال: في قوله: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم) فهي الخيانات.
وقال ابن برهان: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد، ففهمه من فهمه وعمه عنه من عمه، وكذا كل ما حكم به أو قضى به، وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه.
وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله، حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة من قوله في سورة المنافقون: (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها) فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها التغابن ليظهر التغابن في فقده.
وقال ابن أبي الفضل المرسي في تفسيره: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم بها، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه:
فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه، فسموا القراء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به، حتى أن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد ولفظاً يدل على معنيين ولفظاً يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني، (وهو المشترك اللفظي الذي يعرف المراد منه بدلالة السياق الذي يرد فيه)، وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: (لوكان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين. وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق النظر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً، وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضاً.
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة والأمم الخالية ونقلوا أخبرهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسمعوا ذلك بالتاريخ والقصص.
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.
¥