شيء) اهـ كلام المرسي ملخصاً". اهـ بتصرف.
ومن طريف ما ذكر في هذا الشأن ما وقع لعبد العزيز الكناني، رحمه الله، صاحب "الحيدة" في مجلس المأمون العباسي، ونصه:
"فجثا محمد بن الجهم على ركبتيه وقال: يا عبد العزيز زعمت أن كل شيء يتكلم به الناس ويحتاجون إلى معرفته موجود في كتاب الله بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير فأوجدنا أن هذا الحصير مخلوق أو غير مخلوق في كتاب الله تعالى بنص التنزيل ووضع يده على حصير مرمي كان تحتنا مبسوطاً في الإيوان فقلت له: نعم علي أن أوجد ذلك.
قال عبد العزيز فأقبلت عليه فقلت له: أخبرني عن هذا الحصير أليس هو من سعف النخل وجلود الأنعام؟ قال: بلى. قلت: فهل فيه شيء غير هذا؟ قال: لا. فقلت: هل ها هنا شيء غير هذا؟ قال: لا. فقلت له: بل ها هنا شيء صار به حصيرا يجلس عليه. قال: وما هو؟. قلت: الإنسان الذي صنعه وألفه وأحكمه قال: نعم.
قال عبد العزيز: فقلت له: قال الله عز وجل وقد ذكر الأنعام فقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}. وأما السعف فإن الله ذكره فقال: {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ} وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} فقد كمل خلق الحصير بنص القرآن بلا تأويل ولا تفسير". اهـ
ولسان حال الناظر في الكتاب العزيز لسان مقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا، ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
وهذا أمر جار على الأحكام الشرعية الجزئية لا الأحكام العقلية والعادية فقط.
فمبنى التنزيل على الإيجاز البليغ فلا إخلال فيه ولا تقصير.
فالشرع قد جاء بالأصول الكلية التي ترد إليها الفروع الجزئية، فكلياته الجامعة تحوي أجناس النوازل وإن لم تحو أعيانها نازلة نازلة إذ ذلك غير متصور، فإن الحوادث والنوازل لا تنتهي، فكان من إحكام هذه الشريعة أن احتوت عبارتها ذلك على حد القواعد العامة: أصولية كانت أو فقهية، التي تندرج تحتها الأفراد اندراج الخاص تحت العام.
يقول قوام السنة رحمه الله:
"إن الحوادث للناس، والفتاوى في المعاملات ليس لها حصر ونهاية، وبالناس إليه حاجة عامة، فلو لم يجز الاجتهاد في الفروع وطلب الأشبه بالنظر والاعتبار، ورد المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة، لتعطلت الأحكام، وفسدت على الناس أمورهم، والتبس أمر المعاملات على الناس، ولا بد للعامي من مفتٍ، وإذا لم يجد حكم الحادثة في الكتاب والسنة فلا بد من الرجوع إلى المستنبطات منهما، فوسع الله من هذا الأمر على الأمة، وجوز الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة، ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات، لأنها محصورة معدودة، قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة". اهـ بتصرف يسير
"الحجة في بيان المحجة"، (1/ 397).
فالإلهيات لا يتصور الاجتهاد فيها بقياس العقل إذ هي من المغيبات التي لا يدرك العقل حقائقها على جهة التفصيل وإن أدرك معانيها على سبيل الإجمال، فالأصل فيها التوقيف، فلا دور للعقل فيها إلا التسليم والاتباع، وإعمال الفكر في المعاني تدبرا، لا في الحقائق تصورا، إذ ذلك مما حجب عنه فلا مطمع في دركه.
ويقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الاستقامة":
"وكذلك الأمور العملية التي يتكلم فيها الفقهاء فإن من الناس من يقول: إن القياس يحتاج إليه في معظم الشريعة لقلة النصوص الدالة على الأحكام الشرعية كما يقول ذلك أبو المعالي، (أي: إمام الحرمين الجويني رحمه الله)، وأمثاله من الفقهاء مع انتسابهم إلى مذهب الشافعي ونحوه من فقهاء الحديث فكيف بمن كان من أهل رأي الكوفة ونحوهم؟
فإنه عندهم لا يثبت من الفقه بالنصوص إلا أقل من ذلك وإنما العمدة على الرأي والقياس حتى أن الخراسانيين من أصحاب الشافعي بسبب مخالطتهم لهم غلب عليهم استعمال الرأي وقلة المعرفة بالنصوص.
وبإزاء هؤلاء أهل الظاهر كابن حزم ونحوه ممن يدعي أن النصوص تستوعب جميع الحوادث بالأسماء اللغوية التي لا تحتاج إلى استنباط واستخراج أكثر من جمع النصوص حتى تنفي دلالة فحوى الخطاب وتثبته في معنى الأصل ونحو ذلك من المواضع التي يدل فيها اللفظ الخاص على المعنى العام.
¥