والشاهد أن ما تعرض له ذلك الأخ من ظروف أسرية عسيرة في مقتبل حياته، وهي في طريقها إلى الزوال ولله الحمد، قد أثر في وجدانه، فولد عنده نوعا من المبالغة في التعلق بالآخرين ممن يجد منهم اللطف والمودة، وتلك مشاعر لا يستغني عنها أي مجتمع، ولو كان ملحدا لا دينيا، فكيف بمجتمع: الجسد الواحد، ولكن الإشكال هو في المبالغة في ذلك الشأن القلبي فإنه قد يستدرج الإنسان إلى نوع تعلق بالمخلوق دون الخالق، عز وجل، كما يقع لكثير من الأزواج الذين يفرطون في محبة نسائهم، أو الأصدقاء الذين يفرطون في محبة أصدقائهم، فإذا ما وقع الفراق، وهو كائن لا محالة، صعب الأمر على النفس، بخلاف من كان حبه لله خالصا، فهو، كما يقول بعض أهل العلم، يحب الرب، جل وعلا، لذاته، ويحب غيره فيه، فإذا ما ورد على المحل الممتلئ بحب الله، عز وجل، حب آخر، سواء أكان حب ولد أو زوج أو صديق فإن القلب يصرفه في مصارفه الشرعية فينقلب ذلك الحب إلى حب في الله، فيكون على ما اطرد من حال القلب في إفراد الله، عز وجل، بالمحبة المطلقة التي يراد فيها المحبوب لذاته، فمحبته، جل وعلا، لذاته، ومحبة ما سواه محبة تابعة لمحبته فهي مرادة لغيرها، فإن انقلبت، دون أن يشعر الإنسان إلى محبة مرادة لذاتها، تولد من ذلك نوع فساد للقلب إذ قد تعلق بمحبة زائلة.
وأي محبة على غير رسم الشرع: فمآلها الزوال، بل قد تنقلب أحيانا، إلى بغض، لأن من أحب على حد المبالغة في التعلق بالمحبوب فلم يجد حظ نفسه من ذلك المحبوب، فإنه قد يبغضه، بل غالبا ما يقع ذلك، إذ يستشعر في نفسه نوع جحود من المحبوب، فبينما هو يبذل نفسه لمن يحب: فإن محبوبه لا يلقي له بالا، فيحمله ذلك على أن ينتصر لحظ نفسه التي بذلها، فالمسألة على حد: "أَحْبِبْ حَبِيبَك هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَك يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَك هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَك يَوْمًا مَا"، وفي إسناده ضعف.
قال أبو حامد، رحمه الله، في "إحيائه":
"وقال بعضهم: الصبر على الأخ خير من معاتبته، والمعاتبة خير من القطيعة. وينبغي أن لا يبالغ في البغضة عند الوقيعة. قال تعالى: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة". وقال عليه السلام: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، وقال عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً". اهـ
وأنشد بعضهم:
وَأَبْغِضْ بَغِيضَك بُغْضًا رُوَيْدًا ******* إذَا أَنْتَ حَاوَلْت أَنْ تَحْكُمَا
وَأَحْبِبْ حَبِيبَك حُبًّا رُوَيْدًا ******* فَلَيْسَ يَغُولُك أَنْ تَصْرُمَا.
وَقَالَ أبو الأسود رحمه الله:
وَأَحْبِبْ إذَا أَحْبَبْت حُبًّا مُقَارِبًا ******* فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ نَازِعُ
وَأَبْغِضْ إذَا أَبْغَضْت بُغْضًا مُقَارِبًا ******* فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ رَاجِعُ
فالتوسط في الحب والبغض مظنة الاعتدال في الحكم، وإمكان الرجوع إلى سابق العهد بزوال سبب البغض أو الجفاء الطارئ الذي لا تخلو منه علاقة إنسانية مهما بلغت حميميتها، فالفتور عارض بشري يعرض للمشاعر النفسانية والأعمال الجسدية، وقد يطول، فإن لم يلتمس الإنسان لأحبائه العذر في تلك اللحظات، فإنه قد يشتط في الحكم عليهم، إن كان ممن يفرط في الحب والبغض، فبقدر إفراطه في حبه الأول لهم يكون إفراطه في بغضه لهم فيقطع عليه وعليهم طريق الرجوع إن زالت العوارض وانتفت الموانع.
وتفقد النفس أولا بأول في هذا الباب الدقيق: حتم لازم، إذ النفس قُلَّب، والنوايا مترددة بين التجرد والتعلق، فتارة تتجرد النفس من حظوظها فيتحقق لها تمام الإخلاص وذلك أمر نادر عزيز إذ لا حظ للنفس فيه، وتارة تتعلق بحظها، فيتحول الحب في الله، عز وجل، إلى حب تتعلق فيه النفس بغيره.
فمن أصعب ما تمتحن به النفس في هذا الباب:
¥