تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صد المحبوب لحبيبه، ولك أن تتخيل من زعم أنه يحب فلانا في الله، عز وجل، وهي كلمة عسيرة تجري على ألسنتنا بيسر، مع عظم الدعوى وعسر إقامة الدليل على صحتها في هذه الأعصار المادية التي لم تسلم من أثرها نفس إلا من رحم الرب جل وعلا، لك أن تتخيل حاله وقد أعرض عنه ذلك المحبوب وأساء إليه، هل يصبر على ذلك أو ينتصر لنفسه من ذلك الحبيب في الله!، فتنقلب المحبة المفرطة إلى ضدها، وهو أمر، كما تقدم، يغلب كثيرا على أي علاقة إنسانية أفرط طرفاها فيها دون نظر إلى الشرع الذي يحكم علائق الأفراد فيجعلها دائرة في فلك رضا الرب، جل وعلا، فهي مع ما يتحقق لصاحبها من النفع المعنوي بل ربما المادي أيضا: تصله بالله، عز وجل، لكونها جارية على وفق ما شرع، وذلك أمر، كما تقدم، عزيز، لندرة الإخلاص فلا تقوى النفوس غالبا على تحرير النوايا لئلا تتداخل حقوق الرب، جل وعلا، مع حقوق العباد فلا يصير المراد لغيره مرادا لذاته، ولا تتعلق النفوس بغير الله، عز وجل، على حد الإفراط، إذ لا بد لها من تعلق بغيرها حبا أو بغضا، قربا أو بعدا، فذلك أمر قد جبلت عليه فلا لوم عليها فيه، وإنما يتوجه اللوم إليها إن لم تحكم تلك الجبلة بلجام الشرع، فالمشاعر الإنسانية: أمور قد فطرت الأرواح على طلبها كما فطرت الأبدان على طلب المطعومات والمشروبات لتقيم أودها، فلا تسكن الروح حتى تنال حظها من الغذاء كما ينال البدن حظه منه، ولكل غذاءه، والإفراط في تناول الغذاء يورث الجسد اعتلالا، فكذلك الإفراط في المشاعر الإنسانية يورث الروح اعتلالا يحجبها عن المراد الأسمى، حب الرب، جل وعلا، فتصير عائقا في طريق السالك إلى الباري، عز وجل، بعد أن كانت عونا له على سلوكه، وهذا أمر مطرد في كل سلوك بشري، فلا يخلو غالبا من إفراط بالغلو أو تفريط بالجفاء، وتأمل:

حال المسيح عليه السلام بين محب غال ومبغض جاف: بين من جعله إلها، ومن قدح في نسبه وسعى في سفك دمه، فكلاهما قد أعماه التعصب فأفسد حسه وحجب عن عقله مادة التصور الصحيح، فأفرط وفرط، وهدى الله، عز وجل، الملة الوسط إلى القول الفصل في عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى البتول عليها السلام.

وتأمل حال: علي، رضي الله عنه، فهو في أمة الإسلام بين محبه ومبغضه كالمسيح عليه السلام بين النصارى ويهود وإن كان الأثر شديد الضعف، فيهلك فيه اثنان: محب مُطْرٍ يقرظه بما ليس فيه، ومبغض مفتر يحمله شنآنه على أن يبهته، كما عند الآجري رحمه الله في "الشريعة"، وقد كان فقد غلا فئام حتى أفرطوا حبا، وجفا فئام حتى فرطوا بغضا، وهدى الله، عز وجل، النحلة الوسط إلى القول الفصل في رابع الأئمة المهديين ابن عم خير المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وتأمل حال مالك، رحمه الله، إمام دار الهجرة، وقد غلا فيه الأندلسيون حتى استسقوا بعمامته، فله من المكانة في المغرب ما قد علم، وجفا فيه بعض معاصريه فكلامهم في بعضهم من كلام الأكابر الذي يطوى ولا يحكى فليس لسالكي الأودية أن يناطحوا الجبال الراسخات. ولما علم الشافعي، رحمه الله، بذلك، وهو تلميذ مالك البار وخريجه النابه عارض بعض أقواله مناصحة لا مناطحة فثار عليه مالكية مصر، وإن كان الأثر الذي قيل بأن مقتله كان على أيديهم: ضعيفا لا يعتد به، فقد كان الإمام، رحمه الله، مريضا بنزف بلغ به أن ملأ خفه بالدماء فلم يمنعه ذلك من عقد مجلسه فذلك، أيضا، من صور المحبة الخالصة، فالعالم لا يطيق صبرا على فراق تلاميذه فهم مسار القلب وجلاء الحزن كما أثرعن أبي حنيفة، رحمه الله، وقد كان له هو الآخر مع تلاميذه أمر عجب.

وتأمل حال ابن حزم، رحمه الله، وقد أغرى محبيه بجرأته، وأغرى مبغضيه بحدته، فأفرط الأولون وفرط الآخرون.

بل تأمل حال أبي الطيب، وقد كان عظيم الشأن، قد حمد الناس مقالته، وإن لم يحمدوا سيرته، فشغل الناس بين محب قد بهره كبر نفسه وعلو همته، ومبغض له لا سيما ممدوحيه!، إذ كان مدحه لنفسه في ثنايا مدحهم أعظم وأفخم، فلم ينس يوما عظمته، ولم يتصاغر لهم كما يتصاغر آحاد المتصنعين، والملوك لا تقبل في العظمة شريكا، فلا بد أن تتصدر قائمة الأبطال ولو كانوا أجبن الجبناء!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير