تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإن أي علم لا بد أن ينتج ثمرة، وثمرة العلوم التجريدية التي تحلق في سماء المثل العليا في كل مناحي الحياة المعنوية والمادية ثمرة صغيرة الجرم قليلة النفع لا تعادل ما بذله المستثمر من جهد عقلي في سبيل استحصادها فهي، كما يقول أهل العلم: لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ.

بخلاف ثمرة العقول التي أتقنت المناهج التجريبية: ضرورة شرعية قبل أن تكون إنسانية، فالنظر في الآيات الكونية واجب عيني للاستدلال بها في معرض تقرير القضية المصيرية العظمى في حياة أي مكلف: قضية الألوهية التي تلح العقول الصريحة والفطر الصريحة على أصحابها إرادة السعي في تحصيلها على وجه تهدأ به ثورة النفس التي لا تسكن ولا تقر حتى تعرف الرب المعبود، جل وعلا، إله الرسل عليهم السلام، الذين جاءوا بوصف كماله: جلالا وجمالا، إثباتا وتنزيها، فسبحوه ابتداء: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)، فاستحقوا مدحه وثناءه فـ: (سَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)، ثم أثنوا عليه حمدا بأوصاف الكمال بعد تخلية العقول مما علق بها من قدح في وصف رب العزة والجلال مما افتراه عباد الأوثان والصلبان فـ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فله كمال التخلية من أوصاف النقصان وله كمال التحلية بأضدادها من أوصاف الكمال كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في لفتة لطيفة في تفسير تلك الآيات الكريمات.

والنظر في الآيات الشرعية في معرض استنباط الأحكام التكليفية من وجوب وحرمة .......... إلخ: واجب كفائي على فئام من مجتهدي هذه الأمة، ليستنبطوا أحكام النوازل الحادثة بردها إلى أصول تشهد لها أو قواعد تندرج تحتها. فلا يخرج النظر العقلي في ديننا في مجمله عن دائرة: الوجوب العيني على كل مكلف في نفسه بمطالعة آيات النفس وآيات الكون، والوجوب الكفائي بمطالعة آيات الوحي المنزل استنباطا للأحكام التي تحفظ بها الأديان وتستصلح بها الأبدان، فالشرع رحمة قد عمت بركتها: الأولى والآخرة فهو: صلاح الدين والدنيا معا.

فإذا كان ذلك منطلق الفرد المسلم في قضية التفكير: فلا عجب أن تكون ريادته الإنسانية مرتبطة دوما بالتزامه الشرعي، فله حكم قد باين حكم غيره، فالأمم الأخرى تحقق التطور المدني والثراء المادي بالتفاتها عن الدين، وهذه الأمة لا تحقق تقدما معنويا أو ماديا إلا بالالتفات إلى الدين عموما، وإلى الحقبة المباركة التي أرست دعائم الفكر الإسلامي الصحيح، حقبة القرون الفاضلة خصوصا فهم: خير طباق هذه الأمة، علما وعملا، ظاهرا وباطنا، وأصحها تصورات وإرادات فقد زكى الوحي نفوسهم، وأجودها قياسا فقد زكى الوحي عقولهم، فهم أهل التزكية العامة فـ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) فتزكيتهم قلبية وعقلية، علمية وعملية، فقد وضعت أصول البحث والنقد قبل طروء الترجمات التي نقلت أفكار الأمم السابقة إلى ميدان الفكر الإسلامي، فلم تقدر أمة من الأمم على ابتكار علم كعلم أصول الرواية الذي حفظ به المسلمون تراثهم الإنساني فرووا، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، أخبار الحمقى بالأسانيد!، فضلا عن أخبار الشرائع والأحكام، فتلك معطياتهم التي بلغت من الصحة والجودة ما لا يمكن لأمة أن تبلغه مهما أوتيت من وسائل البحث، بل إن كل نقد تاريخي لأي نص منقول يدين بالفضل لعلماء الرواية الذين وضعوا أصولا محكمة للحكم على الأسانيد والمتون فلم تكن نظرتهم قاصرة على طرق النقل، بل كان نقدهم بما أوتوه من قياس عقلي صريح مؤيد بالوحي الصحيح، يتعدى طرق الرواية إلى ألفاظ المرويات، ونوادرهم في ذلك مبثوثة في كتب الرجال، وكتب مختلف الحديث التي تعتبر مثالا عمليا على نقدهم للألفاظ الذي لم يقل براعة عن نقدهم للأسانيد، بل إن معايير نقد الألفاظ عندهم أكثر من معايير نقد الأسانيد كما تقرر في كتب أهل الاصطلاح.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير