تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا العلم مع كونه يعتمد معايير عقلية لم يضعه إلا المحدثون الذين كانوا أعلم الناس بألفاظ الوحي: كتابا وسنة، في مظهر آخر من مظاهر التحام النقل الصحيح بالعقل الصريح في الملة الخاتمة، فحيث وجد الوحي المنزل وجد العقل المسدد فتلك من القواعد القطعية التي لا يمكن نقضها، وحال هذه الأمة في أطوار ريادتها سلفا، وفي أطوار تبعيتها خلفا خير شاهد على ذلك، فإنها لم تتول منصب القيادة دينا ودنيا إلا برسم النبوة والوحي، فلما زالت علة الرياسة بالتفريط في أمر الديانة زال الحكم، بمقتضى السنة الكونية التي لا تجامل أحدا، إذ الحكم يدور مع علته وجود وعدما، فعزلت عن منصب القيادة لما عزلت نفسها عن الوحي، فلم يبلغ منها أعداؤها ما بلغته من نفسها.

ولم يتصد لعلم الرواية يوما ما: مبتدع، مع أن أهل البدعة في كل زمان وإلى يوم الناس هذا يدعون أنهم أهل التحقيق والتدقيق!

وفي أثناء ذلك وضع الخليل بن أحمد، رحمه الله، أول معجم للغة العرب، بطريقة تدل على سعة مدارك صاحبها، فاعتماد مخارج الحروف وتقليب مادة اللفظ الواحد كـ: "عق، و: قع"، و: "عص، و: صع" ....... إلخ: تنويعات عقلية تدل على قوة في العقل كانت هي الطابع العام للمسلمين في تلك الحقبة الزاهرة، فكان ذلك هو الجزء الثاني من أجزاء منهج البحث، فعلم صحيح ناصح، ولسان فصيح شارح، صاحبه عابد زاهد قال عنه تلميذه النضر بن شميل رحمه الله: "أقام الخليل في خص له بالبصرة، لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال! ". وسنة الله، عز وجل، في رفع أقدار المخلصين وإن خلت أيدهم من حطام الدنيا، سنته في ذلك جارية، فهم تبع لصاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مقام: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، وإن انفرد بأعلى درجاته، فلكل من جاء بعده منه نصيب بقدر اقتفائه لأثره، وامتثاله لأمره ونهيه، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله.

والخليل، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، من علماء الجزائر، آية من الآيات، قال عنه بعض المستشرقين ممن عنوا بتراثه الفكري إن عقلا عقله لو وجد في زماننا لفاق عقل أينشتين، فعمله في كتاب العين ليس مجرد جمع لمادة علمية مبعثرة بل هو تصنيف دقيق يدل على عظم عقل مصنفه، ولم يكن ذلك، كما تقدم، غريبا على العقول الإسلامية في تلك المرحلة الذهبية للفكر الإسلامي.

وصناعة المعاجم من أدق الصناعات وأعسرها، فهي صناعة لمعايير يوزن بها الكلام: أداة التعبير والتواصل، وقد وضع الخليل، رحمه الله، بالإضافة إلى علم معيار الألفاظ: علم العروض، وهو بدوره يعتبر علم معيار للسماع، فكأن الباري، عز وجل، قد اختصه بوضع العلمين المتعلقين بهاتين الحاستين اللتين هما من وسائل الحس الرئيسة.

ثم وضع الإمام المطلبي، محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، وهو من أهل تلك القرون الفاضلة، وضع الجزء المتمم لمنهج البحث الإسلامي، فبعد ضبط الأصول نقلا، وتصحيح اللسان نطقا، يأتي دور العقل في استثمار تلك التركة النقلية النفيسة، فجاءت رسالته باكورة التصنيف في أصول الدراية العقلية للأحكام الشرعية، وعنها يقول ابن مهدي رحمه الله: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح فإني لأكثر الدعاء له"، وهي ملمح من ملامح عبقرية ذلك الرجل العظيم الذي أعطي نصف عقل أهل الدنيا بشهادة خصمه العنيد: بشر المريسي، متولي كبر بدعة التجهم ونفي الصفات الإلهية في زمانه مع تبجحه بتقدمه في فنون الجدل والمناظرة العقلية، وقد تصح له الدعوى مع غير محمد بن إدريس، فليس لمثله أن يقهر ذلك العقل الذي نشأ في أحضان الوحي الصحيح، وفي أحضان أهل البادية أصحاب اللسان الفصيح فأورثه ذلك جودة في الفهم والقياس، ومقولته المعروفة: "أصحاب العربية جن الإنس يبصرون ما لا يبصر غيرهم": أشهر من أن تذكر فعندهم من القوى العقلية واللسانية ما يستنبطون به دقائق الأحكام العقلية، وقد كان الشافعي، رحمه الله، آية في الاستنباط، قد شهد له أمثال أحمد، رحمه الله، بالريادة فـ: "إن فاتك حديث بعلو تجده بنزول ولا يضرك في دينك ولا في عقلك ولا في فهمك، إن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أفقه في كتاب الله من هذا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير