ومع الإسلام والسنة: تجد ما يزكي القلب وما ينير العقل فلا ازدواجية بين الروح والجسد كما في بقية المناهج الإنسانية.
ودين كدين الإسلام الذي يزعم أعداؤه أنه دين يحارب العقل هو الدين الوحيد الذي صلحت مدارك أتباعه الحسية وقواهم العقلية لابتكار هذا العلم الذي يعتبر ميزان الفهم العالمي، فليست قواعده حكرا على البحث الشرعي، أو على أمة بعينها، بل هو مما يأنس به أي عقل صريح في معرض الاستدلال لأي قضية إلهية أو طبيعية تعرض له، فهو، كما تقدم، معيار عام لجميع العلوم والفنون.
وخلاف ما يروج له أهل المنطق من جودة مباحثهم العقلية:
لم يصب علم الأصول بما يصيب العلوم من الانكماش بعد التمدد، إلا بإدخال المقدمات المنطقية في أبحاثه العقلية الصريحة، فجاءت تلك المقدمات لتعسر اليسير، وتفلسف الواضح حتى صيرته غامضا، ولذلك عاب بعض أهل العلم على الإمام الغزالي، رحمه الله، مع كونه من أئمة هذا الفن ومصنفه الجليل: "المستصفى" مرجع من مراجع هذا العلم وهو شاهد بنقدمه وإمامته فيه، عابوا عليه إدخاله المقدمات المنطقية على البحث الأصولي،، بل وقوله: "وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مِنْ جُمْلَةِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَلَا مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، بَلْ هِيَ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ كُلِّهَا، وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا فَلَا ثِقَةَ لَهُ بِعُلُومِهِ أَصْلًا "
قال ابن تيمية رحمه الله:
"قال الشيخ أبو عمرو، (وهو ابن الصلاح، رحمه الله، صاحب مقدمة أصول الحديث): وسمعت الشيخ العماد بن يونس يحكي عن يوسف الدمشقي مدرس النظامية ببغداد وكان من النظار المعروفين أنه كان ينكر هذا الكلام ويقول: "فأبو بكر وعمر وفلان وفلان" يعني أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من الثلج واليقين ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابها". اهـ
"شرح العقيدة الأصفهانية"، ص327.
وذلك أمر غني عن الذكر، فإن الصحابة، رضي الله عنهم، كما تقدم مرارا، لم يكونوا بحاجة إلى تصنيف هذه العلوم إذ كانت بالنسبة إليهم: أمورا بدهية، فعقولهم أصح العقول وحفظهم مضرب المثل ولسانهم أفصح لسان، وهم مع ذلك أصح الناس نوايا وإرادات، فهم كما حدهم ابن مسعود رضي الله عنه: "خير هذه الأمة، أبرُّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الهدى المستقيم". اهـ
يقول ابن خلدون رحمه الله:
"واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً، فعنهم أخذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها، لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم. فلما انقرض السلف، وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل، احتاح الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه". اهـ
فالقوم قد جاوزوا القنطرة، كما يقول أهل الحديث، فهم في واد والناس في واد آخر!، فـ: "وَاللَّهِ مَا امْتَازَ عَنْهُمُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَّا بِالتَّكَلُّفِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَطْرَافِ الَّتِي كَانَتْ هِمَّةُ الْقَوْمِ مُرَاعَاةَ أُصُولِهَا، وَضَبْطَ قَوَاعِدِهَا، وَشَدَّ مَعَاقِدِهَا، وَهِمَمُهُمْ مُشَمَّرَةً إِلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. فَالْمُتَأَخِّرُونَ فِي شَأْنٍ، وَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ آخَرَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا". اهـ
"شرح العقيدة الطحاوية"، ص24.
والله أعلى وأعلم.
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[13 - 12 - 2009, 11:26 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد:
الأستاذ الفاضل: مهاجر
جزاك الله خيرا .... موضوع قيم .... جعله الله في موازين حسناتكم .... اللهم آمين