تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وأما الجدل وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم، فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلاً، وكيف يكون مخصوصاً منقطعاً، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت لخصمه الكلام والاستدلال. ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد، من الحدود والآداب، في الاستدلال، التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره". اهـ

وقد صار ذلك، أيضا، معيارا عاما من معايير الجدال والمناظرة في شتى العلوم الشرعية والطبيعية، فطريقته كما يقول ابن خلدون رحمه الله: "عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان". اهـ

وينفرد المنهج الإسلامي بأمر تفتقر إليه بقية المناهج، فإن المناهج كلها تشترك في استمداد المعطيات وتحليلها لاستنتاج ثمار عقلية نافعة، على تفاوت بينها في التفاصيل كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ولكن الواقع يشهد بالفشل الذريع الذي منيت به المناهج الأخرى لا سيما المادية سواء أكانت شيوعية أم علمانية، فإنها لم تحقق بهذه الثمار سعادة لها ولا لغيرها، بل جلبت التعاسة لها والدمار لغيرها كما هو حال كثير من أمصار زماننا، فالتعاسة التي يعانيها الإنسان الغربي سيد الكون ومركزه، كما يدعي لنفسه بلسان المقال أو الحال، والدمار الذي جلبته ثمار مدنيته المفتقرة إلى أسس الحضارة الإنسانية من دين وخلق كما هو مشاهد في بلاد الأفغان والفقاز والعراق وبيت المقدس وأكنافه ومن قبلها البلقان القابل للاشتعال في أي لحظة، ذاتك الأمران خير شاهد على افتقار تلك المناهج لما يتميز به الإسلام من مضامين أخلاقية لعلومه، ولو كانت عقلبة بحتة كعلم الأصول، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فهو علم، كما تقدم، يغلب الجانب العقلي على مباحثه لدرجة التكلف في بسط بعض المسائل التي لا ثمرة عملية منها، وهو مع ذلك يعنى بتقرير الجانب الأخلاقي، فيحد الأحكام التكليفية بثمارها ترغيبا وترهيبا، فالواجب: ما وعد فاعله بالثواب وتوعد تاركه بالعقاب، والمحرم: ما وعد تاركه بالثواب وتوعد فاعله بالعقاب ......... إلخ، فيعلق همة المكلف بالدار الآخرة فليس همه مقصورا على هذه الدار فقط كسائر المناهج الوضعية ذات النظرة القاصرة، ويعنى باستنباط علل الأحكام إرادة بيان وجه المصلحة فيها وغالبا ما تكون المصلحة في تشريع الأحكام العملية: مصلحة أخلاقية تعود بالنفع على الفرد والجماعة.

وتأمل نصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم على علة النهي عن الجمع بين الأختين كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَمَّةِ وَعَلَى الْخَالَةِ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ.

قال القرطبي، رحمه الله، في "الجامع لأحكام القرآن":

"ورد في بعض الأخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر، وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنآن والشرور بسبب الغيرة، فروى ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة، وقال: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ". اهـ

فالعلة أخلاقية بحتة، فنهى عن ذلك لئلا تقطع الأرحام بما يقع بين الضرائر من المشاحنات التي هي مقتضى الغيرة التي لا تسلم امرأة فذلك مما جبلت عليه النساء، وتلك صورة من صور ملائمة الشرع الشريف لما جبلت عليه النفوس من الخلائق، فاعتبر الإسلام تلك الكوامن النفسية وشرع ما يهذبها فلا ينكر على المرأة إذا أصابتها الغيرة فذلك عارض جبلي لا تملك له دفعا ولا رفعا، وإنما ينكر عليها إذا استرسلت معه فتعدت على حق غيرها، فسد الإسلام الذريعة إلى ذلك بالنهي عن الجمع بين ذوات الأرحام فمفسدة وقوع المشاحنات بينهم أعظم من مفسدة وقوع المشاحنات بين غيرهم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير